“تركتُ العمل في وزارة الصحة المصرية بحثاً عن مناخ آمن، فالأوضاع الصحية في مصر متدهورة، لا إمكانات حقيقية، ولا فرص تدريب، فضلاً عن تدني الرواتب، وارتفاع تكاليف الحياة، إضافة إلى عدد ساعات العمل الأسبوعية التي تزيد على 96 ساعة (نحو 14 ساعة يومياً)، لم أكن أستطيع الجلوس مع عائلتي، فقط أعود للمنزل للنوم تجهيزاً للاستيقاظ واستكمال دورة العمل ليس إلّا، وعليه كان لا بد من قرار الرحيل، لا سيما أن تخصصي يعاني عجزاً في أماكن عدة حول العالم، والفرص كثيرة، والسفر سهل”.
لم تكن طبيبة التخدير والرعاية المركزة نيرمين هاني هي الاستثناء من حالة باتت تعيشها مصر في السنوات الأخيرة، إذ تشهد البلاد زيادة مطردة في معدلات استقالة الأطباء من القطاع الحكومي وهجرة الآلاف للخارج، لأسباب ودوافع مختلفة، تصب جميعها في “تردي حالة القطاع الصحي بالبلاد”، بحسب ما سجلت نقابة الأطباء العامة في مصر.
وقبل أيام، حذرت نقابة الأطباء من تنامي الظاهرة وتأثيرها في أحد أهم القطاعات بالدولة، لا سيما مع رصد أكثر من 11500 استقالة لأطباء خلال السنوات الثلاث الأخيرة، ما يضاعف حجم التحديات التي تواجه قطاع الصحة الذي يعاني بالأساس نقصاً في الكوادر الطبية (معدل الأطباء في مصر 8.6 طبيب لكل 10 آلاف مواطن، أي أقل من طبيب لكل 500 مواطن، بينما المعدل العالمي 23 طبيباً لكل 10 آلاف مواطن).
وعلى الرغم من أن مصر شهدت إنشاء أول مدرسة للطب بالشرق الأوسط في مارس (آذار) 1827 (أمر بإنشائها محمد علي في منطقة أبو زعبل قبل أن تنتقل إلى منطقة قصر العيني وسط القاهرة)، فإن ظاهرة “هجرة الأطباء” كانت السمة الأبرز في الدولة العربية الأكثر تعداداً للسكان طوال العقود الأخيرة، لدرجة وصلت معها لحد “العجز في الكوادر البشرية”، وفق مسؤولي القطاع، في وقت تتبادل فيه نقابة الأطباء ووزارة الصحة (الجهة التنفيذية المسؤولة عن القطاع الطبي) الاتهامات حول أحوال الأطباء، مع وجود القوانين المقيدة لعملهم، فضلاً عن الظروف المحيطة “غير المناسبة”، وفوق كل هذا يأتي تدني الأجور الخاصة بالكادر الطبي الأقل بين أقرانهم حول العالم، إذ يتراوح الآن بين نحو 3200 و4000 جنيه، أي ما بين 175 و218 دولاراً أميركياً شهرياً.
“الرحيل” هو الحل
بحسب ما تروي نيرمين هاني، الطبيبة الثلاثينية التي تعمل الآن بإحدى الدول العربية، فإن “دوافع كثيرة بينها ما هو اجتماعي وتعليمي ومادي، وأخرى متعلقة بالأمان، هي ما قادتها في النهاية للمضي قدماً في خيار مغادرة القطاع الصحي المصري”، موضحة لـ”اندبندنت عربية”، أن “رواتب الأطباء في مصر هي الأقل بين الفئات، وكذلك المستويات العالمية، فضلاً عن تدني الإمكانات الطبية في القطاع الصحي، وعلى الرغم من ذلك كان هناك ما يشبه الكود السري بين الأطباء والمرضى، يفيد بأن هناك رسالة لدى الأطباء سيستمرون بمقتضاها في العمل بأقل الإمكانات بهدف خدمة أهلنا من الفقراء”.
تتابع، “كنا نتحرك في سياق أننا نعمل كل ما في جهدنا بالإمكانات المتاحة لتوفير أقصى رعاية ممكنة للمرضى، وكان الجميع يتشارك في الأمر لتجاوز النقص، أو أي تحديات طارئة، سواء عبر مشاركة أهل المريض، أو عبر التبرعات، أو حتى مشاركتنا نحن لتوفير الاحتجاجات الناقصة من أجل العلاج”. تضيف، “هذا الكود الاجتماعي يبدو أنه ذهب هو الآخر، واختلفت الأمور كثيراً، وبات الطبيب عرضة للخطر طوال الوقت، إذ بات المريض ومرافقوه يدخلون المستشفى متحفزين، ويضعون دوماً الطبيب في خانة الاتهام بسبب ما يجدونه من تقصير في المنظومة الصحية، على الرغم من أن الطبيب يكاد يكون الحلقة الأضعف بالقطاع”.
في الأثناء، وبحسب نيرمين، “أصبح الطبيب مع مرور الوقت يواجه الكثير من المصاعب والتحديات أثناء القيام بعمله، في ظل احتمالات الكثير من المتاعب التي قد تواجهه، لدرجة وصلت لحد أن أي مريض أمامك، سواء في القطاع الحكومي أو الخاص هو مشروع شكوى وقضية وابتزاز مادي، وهو الوضع القائم في العديد من الدول، لكن في مصر يحاسب الطبيب أمام احتمالات الخطأ الطبي بالقانون الجنائي، وليس قانون المسؤولية الطبية، وعليه يدخل في دائرة التقاضي الجنائية التي لا تعترف في كثير من الأحيان برأي اللجان الطبية المتخصصة وتراها غير ملزمة في التقاضي”.
تضيف، “إلى جانب كل هذه المصاعب، زادت في الآونة الأخيرة، حالات تعدّي المرضى أو مرافقيهم على الطبيب، أضف إلى هذا تضاعف عدد ساعات العمل، وحجم الإرهاق التي بات يعانيه الكادر الطبي مع عدم وجود ضمانات صحية أو إنسانية، إضافة لارتفاع تكاليف التدريب واستكمال الدراسات العليا، وعليه يبقي الخيار أمام الطبيب هو الرحيل لضمان التقدير المادي والمعنوي والعمل ضمن بيئة أكثر أماناً”.
من جانبه، يرجع أحمد عبد الرحمن، طبيب التخدير بألمانيا، أحد أبرز الأسباب التي دفعته للرحيل في عام 2015 عن القطاع الصحي في مصر، هو “التقدير المادي والمعنوي”، إذ لم يعد يحصل “الأطباء في مصر على ذلك التقدير مقارنة بالمجهود العلمي والذهني المبذول طوال سنوات تعلمهم ومقارنة كذلك بموظفين القطاعات الحكومية الأخرى في الدولة” على حد وصفه، مضيفاً في حديثه لنا، “يسهل العديد من دول العالم، سواء في المنطقة العربية أو أوروبا والولايات المتحدة من سفر الأطباء للخارج، مع الكثير من التقدير المعنوي والمادي وبيئة عمل صحية ومناسبة لعمل الأطباء، وعليه، تتركز الخيارات أمام العديد من الأطباء المصريين، في ظل التحديات التي يواجهونها في الداخل، على الرحيل واستكمال المسيرة خارج البلاد”.
يتابع عبد الرحمن، “هناك أسباب كثيرة تدفع دوماً باتجاه رحيل الأطباء، ولعل أبرزها القدرة على مواصلة التعلم والتدريب ومدى توافره بأسعار مناسبة، وكذلك استكمال الدراسات العليا المطلوبة لكي يحافظ الطبيب طوال الوقت على مواكبته التطورات العلمية، وهو ما نفقده كثيراً في مصر”.
أكثر من 11 ألف طبيب استقالوا في 3 سنوات
وبحسب تقرير حديث لنقابة الأطباء المصرية، فإنه ووفق إحصاءات الأشهر الأولى من عام 2022 حتى 20 مارس (آذار) الماضي فقد استقال 934 طبيباً، ليصل العدد الإجمالي لنحو 11 ألفاً و536 طبيباً استقالوا منذ أول 2019 وحتى 20 مارس 2022. وحذر التقرير من تزايد معدلات استقالة الأطباء من العمل الحكومة. وطالب بتدخلات عاجلة لحل تلك الأزمة والحد من هجرة الأطباء المصريين خارج البلاد.
وذكر التقرير، أنه “على الرغم من قرار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بإضافة بعض المزايا المالية لأعضاء المهن الطبية، وتأكيده في أكثر من محفل اهتمامه بالأطباء والشباب منهم خاصةً، وسعي الحكومة لتحسين أوضاع الأطباء التدريبية والمادية للحد من هجرتهم واستبقائهم للعمل داخل مصر، فإن إحصاءات الواقع تؤكد استمرار عزوف الأطباء عن العمل داخل مصر”.
وفي مارس 2019، أصدرت وزارة التعليم العالي بالتعاون مع وزارة الصحة المصرية، دراسة عن مدى احتياجات مصر للأطباء البشريين والمقارنة بالمعدلات العالمية، وذكرت الدراسة “أن إعداد الأطباء البشريين المرخص لهم بمزاولة مهنة الطب حتى آخر عام 2018 من دون الأطباء على المعاش تقدر بـ212 ألفاً و835 طبيباً، بينما من يعمل وقتها فعلياً في مصر بالجهات المختلفة التي تشمل وزارة الصحة والمستشفيات الجامعية الحكومية والخاصة وجامعة الأزهر والمستشفيات الشرطية 82 ألف طبيب فقط بنسبة 38 في المئة من القوة الأساسية المرخص لها مزاولة مهنة الطب”. وأضافت الدراسة “أنه طبقاً لهذا العدد يكون معدل الأطباء في مصر 8.6 في المئة طبيب لكل 10 آلاف مواطن، بينما المعدل العالمي 23 طبيباً لكل 10 آلاف مواطن”.
“الوضع ما زال سيئاً”
ووفق تقرير نقابة الأطباء، “فإنه وبعد مرور 3 سنوات على إصدار دراسة الاحتياجات من الأطباء البشريين التي قامت بها وزارتا التعليم العالي والصحة، وبعد تنفيذ بعض توصيات الدراسة بالفعل من زيادة إعداد المقبولين بكليات الطب وإنشاء كليات طب جديدة، فإن الأرقام والإحصاءات تؤكد أن “الوضع ما زال سيئاً وزيادة عزوف الأطباء عن العمل بالقطاع الحكومي وتزايد سعيهم للهجرة خارج مصر”.
وكشف التقرير عن أن السنوات السابقة لإعلان تلك الدراسة كشفت عن عدد الأطباء الذين تقدموا باستقالاتهم خلالها من العمل الحكومي المصري وحصلوا على شهادة طبيب حر من نقابة الأطباء، فعام 2016 كان عدد المستقيلين من الأطباء 1044 طبيباً، وفي عام 2017 كان العدد 2549 طبيباً، وعام 2018 بلغ عدد الأطباء المستقيلين 2612 طبيباً. أما السنوات التي تلت إعلان تلك الدراسة فكانت كالتي: في عام 2019 شهد استقالة 3507 أطباء، وفي عام 2020 استقال 2968 طبيباً، أما عام 2021 فكان العدد الأكبر من المستقيلين من العمل الحكومي، وبلغ 4127 طبيباً”.
وذكر التقرير، “أنه في لقاء بعدد من أطباء الدفعة الحديثة من خريجي كليات الطب مع بعض أعضاء مجلس النقابة العامة للأطباء بدار الحكمة أواخر فبراير (شباط) الماضي، كانت تساؤلات العديد من الأطباء عن إتاحة وزارة الصحة والسكان لاستقالات الأطباء المكلفين”.
وطبقاً لسجلات نقابة الأطباء “فإن عدد الأطباء المسجلين بالنقابة والمرخص لهم بمزاولة المهنة من دون الأطباء على المعاش بلغ حتى 20 مارس الماضي 228 ألفاً و862 طبيباً بعد 3 سنوات من دراسة الاحتياجات التي أصدرتها وزارة التعليم العالي، بزيادة قدرها 16 ألفاً و27 طبيباً، استقال منهم 11 ألفاً و536 طبيباً وطبيبة، ليكون عدد الأطباء العاملين في القطاع الحكومي 93 ألفاً و536 طبيباً تقريباً، وتكون نسبة الأطباء في القطاع الحكومي إلى عدد الأطباء المرخص لهم بمزاولة المهنة تحت سن المعاش 40.8 في المئة بزيادة 2.8 في المئة فقط عن أول عام 2019”.
ووفق التقرير، “زادت نسبة الأطباء إلى المواطنين لـ9.2 في المئة طبيب لكل 10 آلاف مواطن بدلاً من 8.6 في المئة مع بداية عام 2019، إلا أنها تظل بعيداً من المعدل العالمي المقدر بـ23 طبيباً لكل 10 آلاف مواطن”.
وبحسب بيانات وزارة الصحة المصرية، “يبلغ عدد خريجي كليات الطب نحو 9 آلاف طبيب سنوياً، في حين يعمل أكثر من 60 في المئة من الأطباء المصريين خارج البلاد، أكثرهم بدول خليجية”.
“جهود رسمية غير كافية”
وفيما تسعى السلطات الرسمية في الدولة لمعالجة الأزمة، إذ يقول أشرف حاتم، وزير الصحة المصري الأسبق، ورئيس لجنة الصحة في مجلس النواب، لـ”اندبندنت عربية”، إن “هناك خططاً قائمة يتم العمل عليها حالياً لتحسين الوضع المادي والمعنوي للأطباء، فضلاً عن تكثيف سياسات التأهيل والتدريب، إلا أنها تبقى غير كافية لوقف ما بات يعرف بـ(نزيف الأطباء) في مصر”.
ويرى خالد أمين، عضو مجلس نقابة الأطباء، أن “مشكلة هجرة الأطباء تبقى مسؤولية جماعية ومشتركة على الجميع، فإلى جانب الأسباب الشخصية التي تدفع بالأطباء للهجرة خارج البلاد والمتمثلة بالأساس في تدني الأجور، وضعف مستوى التدريب، وارتفاع تكاليف استكمال الدراسات العليا، فضلاً عن قانون المسؤولية الجنائية وليس الطبية هو ما يحاسب عليه الطبيب حال خطئه، هناك أسباب أخرى يتحملها شيوخ المهنة وأساتذة الجامعات والكليات في تعاملهم في الأطباء حديثي التخرج، فضلاً عن مسؤولية الدولة ذاتها”.
يضيف أمين في حديثه لنا، “ستظل مشكلة هجرة الأطباء من مصر قائمة، لكن علينا معالجة بعض أسبابها للحد من تلك الظاهرة التي باتت تضرب القطاع الصحي في مصر، وأصبحنا نعاني عجزاً حقيقياً في مقدمي الخدمة الصحية المصرية، لا سيما التخصصات التي تحتاج إلى جهد أكبر وخطورة أعلى في ممارستها”.
وفي نهاية فبراير (شباط) الماضي، علق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على هجرة كثير من الأطباء للخارج، مشيراً إلى “أن الرواتب التي يحصلون عليها في مصر لا تناسبهم”. وقال السيسي خلال إطلاقه للمشروع القومي لتنمية الأسرة المصرية، “إن البعض يترك مصر من أجل فرصة عمل في بلاد أخرى”، وضرب المثل برواتب الأطباء الضعيفة، التي لا تستطيع الدولة توفير بديل جيد لها.
وبحسب تقرير نقابة الأطباء المصرية، “فإن متوسط راتب الطبيب المقيم في مصر 3700 جنيه مصري (نحو 202 دولار أميركي)، ومتوسط معاش الطبيب بعد نحو 35 سنة عمل بالحكومة 2300 جنيه مصري (نحو 125 دولاراً أميركياً)، بينما يتقاضى الطبيب المقيم في صربيا 600 يورو شهرياً ما يعادل 12 ألف جنيه مصري، أما الجراح في الصومال يتقاضى 5 آلاف دولار شهرياً ما يعادل 91 ألف جنيه مصري، ويتقاضى الطبيب الممارس في السويد شهرياً 1600 دولار ما يعادل 30 ألف جنيه مصري، والحد الأدنى لراتب الطبيب الشهري في السعودية يعادل 22 ألف جنيه مصري”.
ويتابع أمين، “تبقى أزمة هجرة الأطباء كارثية بكل المقاييس وتحتاج تدخلات عاجلة من الدولة، إذ إنها تسهم في تدني مستوى الخدمات الصحية في مصر وتزيد من مشاكله الحالية، في وقت لا يزال فيه الإنفاق الحكومي على قطاع الصحة منخفض بشكل عام (نحو 5 في المئة من موازنة الدولة وفق الدستور) مقارنة بدول العالم”.
ووفق الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري، فقد “وصل الإنفاق العام على قطاع الصحة في العام المالي 2021-2022 إلى أكبر معدل له منذ العام المالي 2013-2014 وبلغ 108.8 مليار جنيه، مقارنة بـ93.5 مليار جنيه في موازنة عام 2020-2021، و73.1 مليار جنيه في موازنة عام 2019-2020، و61.8 مليار جنيه في موازنة 2018-2019”.
من جانبه، يرى أحمد بكر، عضو مجلس نقابة الأطباء المصري السابق، “أن الحلول تكمن بالأساس، في سرعة إقرار استراتيجيات حقيقية للتعامل مع القطاع الصحي كأحد أبرز الأولويات لدى الدولة”، مضيفاً في حديثه لنا، “يتطلب سريعاً إعادة النظر في أجور ورواتب الأطباء كجزء من زيادة الإنفاق على الصحة، وتوفير بيئة عمل آمنة للأطباء، خصوصاً حديثي التخرج داخل المستشفيات الحكومية”، مضيفاً “على السلطات المتخصصة تكثيف تطوير المستشفيات وأماكن تقديم الخدمات الصحية، سواء في معايير النظافة وإنشاء استراحات آدمية للأطباء كجزء من توفير بيئة عمل جيدة، فضلاً عن العمل على حل المشكلات البيروقراطية مع برنامج الزمالة والتكليف التي تزيد من غضب الأطباء على المنظومة بشكل عام”.