عندما باشر الجيش الروسي اجتياح المدن الأوكرانية مطلقاً القذائف والصورايخ، لجأ مواطن يقيم في أحد أحياء كييف التي تعرضت للقصف، إلى إغلاق نافذة غرفة مكتبته بجدار من الكتب، خوفاً من أن تتسلل قذيفة إليها فتحرق المكتبة وكل الكتب التي تحتويها.
كانت الصورة التي التقطت للنافذة المغلقة بجدار من الكتب واحدة من الصور التي راجت على مواقع التواصل الاجتماعي وفي الصحف، وجرى تناقلها نظراً إلى ما تحمل من بعد رمزي يدل على ما يمثل الكتاب في حياة هذا المواطن الذي يبدو أنه قارئ من الطراز الرفيع، والذي آثر أن يضحي ببضعة من كتبه التي أغلق بها النافذة، على أن تحترق كل مكتبته.
هذه الصورة التي جذبت نظر المواطن الذي صورها خلال عبوره الحي، تؤكد أن الكتاب الذي هو خير جليس في أيام الرخاء والسلام يمكن أن يؤدي دوراً آخر، دور الحارس الذي قد يحمي من الرصاص والقذائف. هنا لا تغيب عن الذاكرة مشاهد الكتب التي مزقتها شظايا القذائف والرصاص خلال المعارك، وغدت كأنها أيضاً من ضحايا الحروب، مثلها مثل البشر. وأذكر كم شاهدنا في بيروت من ركام الكتب الجريحة التي لم يبق منها سوى بقايا صفحات وأسطر.
نافذة الكتب
قد يكون مشهد النافذة المغلقة بجدار من الكتب في كييف خير تحية يمكن أن توجه إلى الكتاب في يومه العالمي الذي تحتفل به منظمة “اليونسكو” في الثالث والعشرين من أبريل (نيسان) كل عام. وهو يوم لا بد من الاحتفاء به كل الأيام، فالكتاب لم يبق قادراً على الدفاع عن نفسه وعن حضارته العريقة حيال “الحضارات” العصرية، الحقيقية والمزيفة، بدءاً من حضارة المرئي والمسموع وانتهاء بحضارة “اللهو” أو “المتعة”. ويحتاج الكتاب كثيراً إلى أن تسلط الأضواء على أزمته، بل على أزماته المختلفة التي لا يستطيع الإنسان أن يبرئ نفسه منها، فحين نقول: كتاباً نقول: كاتباً ونقول قارئاً ونقول ناشراً… فالكتاب لم يكتب أصلاً إلا ليُنشر وليُقرأ من ثم، وصاحبه (الكاتب) لم يكتبه إلا لناشر ينشره وقارئ يقرأه.
لا يكفي أن يصبح “اليوم العالمي للكتاب” مناسبة سنوية يشارك فيها الكتّاب والناشرون والقراء وسواهم، ويحيون خلالها بعض التقاليد الجميلة، بل ينبغي أن يكون هذا اليوم حافزاً على إعادة الكتاب إلى واجهة الحياة المعاصرة بعدما احتلتها الصورة الحديثة على اختلاف أنواعها، سارقة من الكتاب لا جمهوره فحسب، وإنما بريقه السابق أيضاً والشغف الذي كان يثيره في الناس .وأمام هجمة الثقافة التكنولوجية الحديثة، اضطر الكتاب إلى أن يحدّث أو يطور نفسه مستسلماً لسطوة وسائل الاتصال الجديدة ومتخلياً عن سحره ودفئه كرفيق وصديق صامت ورؤوف.
يستحيل طبعاً أن يسترجع الكتاب ما أفقدته إياه تدريجاً حضارة العصر “المأزومة”، وأن يستعيد رواجه وجمهوره السابقين، ولكن من الممكن وقف تراجعه فيما لو حاول القائمون عليه (وهم كثيرون) أن يجعلوه هم الهموم وقضية القضايا. يحتاج الكتاب إلى أن يغزو من جديد مرحلة الطفولة والمراهقة، وأن يعمم على المدارس والجامعات وعلى النوادي والجمعيات الأهلية. ومثلما ينشأ المرء على الأخلاق الاجتماعية، ينبغي أن ينشأ على حب الكتاب وفتنة القراءة، ومثل هذا الكلام يتوجه إلى الجميع ولا يتوجه إلى أحد، فالمسؤولون عن تراجع الكتاب معروفون وغير معروفين أيضاً. والأسباب معروفة جداً، ولكنها صعبة وشائكة حتى لكأنها غير معروفة.
متعة الكتاب
تحتاج القراءة الى أن تعود كما كانت من قبل، هواية الهوايات ومدعاة للثقافة والمتعة في الحين نفسه. يحتاج الكتاب إلى أن يحافظ على “المتعة” كي يغري جمهوره ويحد من الخسارة ويواجه “المتع” السهلة والعابرة، التي تتيحها الوسائل العصرية.
وكي لا يكون الكلام عن الكتاب في يومه العالمي مدعاة لليأس والقنوط، ينبغي الرجوع إلى سره الذي ما برح يحافظ عليه بشدة، على الرغم مما يواجهه ويعترضه. فالكتاب سر من أسرار الكائن، واختراعه هو من أجمل ما اخترعت البشرية. كان الشاعر الفرنسي الكبير ملارميه يقول “كل ما في العالم وجد كي يؤدي إلى كتاب”، ويكفي أن يستعرض القارئ التاريخ الطويل الذي اجتازه الكتاب ليتبين أي موقع احتل في قلب الحضارات المتعاقبة: من ألواح الطين إلى المخطوطات، فإلى المحرقات والرقابات، فإلى العصور الحديثة …تاريخ الكتاب هو تاريخ الإنسان نفسه، بل أجمل تواريخه ربما وأشدها سحراً وفتنة. وأعداء الكتاب كما قال بول فاليري هم أعداء الإنسان: النار، الزمن والمضمون، مضمون الكتاب.
الرغيف الروحي
كان بورخيس الكاتب الأرجنتيني الكبير يصر على شراء الكتب وعلى رصفها في مكتبته رافضاً الاعتراف بعماه الذي حل به في فترة متأخرة. وكان يكتفي بلمس الكتب كي يشعر بتلك اللذة الكبيرة التي كان يتمتع بها عند القراءة.
في حقبة من الحقب التاريخية التي عرفتها أوروبا كان يدور الكلام عن “مجاعة” القراءة. حينذاك كان الكتاب بمثابة “الرغيف” الروحي والفكري، وكان الجوع إليه كبيراً وكبيراً جداً. لكن التطور التكنولوجي الذي شهدته الحقب الاخيرة، خفف من وطأة هذا الجوع، حتى إن الذين باتوا يشعرون به هم القلة.
تحتفل منظمة اليونسكو اليوم بالكتاب بعد انقطاع دام أعواماً ثلاثة انتشر فيها وباء كورونا وعاش العالم والبشر أحوالاً من الحصار. ظل الكتاب يقاوم قدر ما أمكنه، على الرغم من تراجع حركة النشر وإغلاق المكتبات وإلغاء المهرجانات ومعارض الكتب واللقاءات الأدبية والثقافية… حينذاك كان لا بد للكتب الإلكترونية من الرواج أكثر من قبل، وراحت مواقع النشر الإلكتروني تنشط، موزعة ما لديها من عناوين جاهزة عطفاً على تجهيز كتب جديدة وقديمة إلكترونياً، ونشرها وتوزيعها. ونشطت كثيراً حركة شراء الكتب الورقية عبر مواقع البيع الإلكتروني التي كانت جاهزة لإيصال أي كتاب يطلبه قارئ إلى بيته حيثما كان. ارتفعت في تلك الأشهر الطويلة أرقام المبيع على المستويين الإلكتروني والورقي، من غير أن يتحرك القراء من بيوتهم ويغادروا أماكنهم الآمنة من الفيروس.
ولكن ما أن انحسر الوباء اخيراً، حتى استعادت معارض الكتب حركتها وكذلك المكتبات وراح القراء يقبلون على شراء الكتب الورقية التي طال انتظارهم إياها، يختارونها من الرفوف، يحملونها ويفتحونها ويقلبون صفحاتها… إنها فتنة الكتاب التي لا يستطيع وباء أو فيروس أن يقضي عليها.