قبل عامين من هذا التاريخ كانت “نتفليكس” تحتفي بزيادة لافتة في نسب مشتركيها ومن ثم أرباحها، فبالتزامن مع إغلاق كورونا في أنحاء العالم وجلوس الناس في المنازل شهدت المنصة ارتفاعاً قياسياً في أعداد المستخدمين، إذ وصلت حينها إلى 183 مليون مشترك بزيادة 16 مليوناً خلال الربع الأول من العام 2020، وتضاعفت مكاسب المنصة خلال عام واحد ووصلت إلى 709 ملايين دولار مقارنة بـ 344 في الفترة نفسها من العام السابق.
لكن فجأة وبعد أن تراجع الرعب بسبب وباء كورونا واطمأن العالم بعض الشيء ولم تعد العزلة الخيار الأول، خسرت شبكة البث التدفقي الأكثر شعبية 200 ألف مشترك، وتراجع سعر أسهمها بمقدار 24 في المئة.
وفي وقت تتوسع خدمات البث العالمية والمحلية الموازية يحاول مسؤولو الشبكة مواكبة ما يحدث، مؤكدين أنهم يضعون منافسيهم في الاعتبار، لكن الواقع أثبت أن الموضوع أكبر من مجرد نظريات اقتصادية، فأنماط المشاهدة تتقلب أسرع مما يتوقع كبار خبراء عالم المال والأعمال، والأرقام تنقلب بين لحظة وأخرى وفقاً لتفضيلات هذا المشاهد الذي يحاول الجميع نيل رضاه، فيما من الصعب التنبؤ بسلوكه بشكل دقيق مهما تطورت بحوث المشاهدة.
قرارات “نتفليكس” وسلوك المشاهد المتغير
ترى “نتفليكس” بحسب ما جاء على لسان مسؤوليها، أن السبب في خسارتها لهذا العدد من المستخدمين يعود لتعليق خدماتها في روسيا بسبب تداعيات الحرب على أوكرانيا، وكذلك عدم الوصول إلى مشتركين جدد في أماكن أخرى من العالم بينها مناطق في شرق أوروبا والشرق الأوسط، وفق ما ذكره المدير المالي للشركة سبينس نيومان.
وبالرجوع لسياسات “نتفليكس” في الفترة الأخيرة، نجد أن هناك بعض القرارات التي قد يكون من شأنها عزوف بعضهم عن خدماتها، بينها قرارها مطلع هذا العام زيادة سعر الاشتراكات في فئاتها المختلفة بما يعادل دولارين، وفي ظل وجود منافسين بأسعار أقل، فقد يحاول بعض المستخدمين تجربة خدمات جديدة، بخاصة مع زيادة التضخم في العالم والأزمات الاقتصادية التي تعصف بكيانات كثيرة.
وفي ما يخص طبيعة المستخدمين، واجهت “نتفليكس” قبل أشهر حملة هجوم عاصفة في الشرق الأوسط، على إثر عرض فيلم “أصحاب ولا أعز“، جعلت المعترضين على العمل يلوحون بقائمة من الاتهامات التقليدية تتلخص في تنفيذ الشبكة أجندة ما، كل ذلك في ظل صمت “نتفليكس” على تلك الحملة ورفضها التعليق على أي استفسارات في هذا الشأن، وهو ما اعتبره بعضهم غروراً من جانب الشبكة، وربما كان ذلك من بين أسباب انحسارها وتراجع الاشتراكات فيها.
الناقد الفني محمد عبدالرحمن يرى ضرورة أن تضع الشبكة في اعتبارها ما يسمى بـ “الجانب القيمي”، مشيراً إلى أن الحملات التي تواجه “نتفليكس” عربياً واتهامات الترويج لبعض الأفكار التي يرفضها بعضهم “تؤثر بشكل أو بآخر في قرارات استكمال الاشتراكات من عدمها”، مشدداً على أن تلك أمور “لم يجر قياسها أو درسها بعد، لكن يجب أن تكون شركة عالمية مثل (نتفليكس) سباقة إلى التعامل مع الأزمات أولاً بأول وبشفافية، بخاصة أن هناك ما يسمى بالمشترك المتردد، فينبغي عليها أن تسعى إلى تحويله لدائم لا العكس”.
محاولات للحد من الخسائر
“نتفليكس” أوضحت بشكل صريح في بيانها الرسمي أن هناك 100 مليون أسرة تقريباً تستخدم محتواها من دون دفع مقابل الاشتراك، لافتين إلى أن هناك نحو 200 مليون مشترك يتشاركون حساباتهم مع آخرين من خلال تمرير كلمة السر، وهو أمر أعلنت المنصة الشهر الماضي أنها ستحاول الحد منه من طريق وضع قيود على استخدام الحساب نفسه خارج الأسرة، إذ سيطلب من أي شخص يستخدم الحساب خارج المنزل وضع الكود الذي يأتي على رقم هاتف المستخدم الأصلي، وهو أمر من شأنه أن يحد من استخدام كلمة المرور بالفعل، لكنه قد يأتي بنتيجة عكسية، بأن تبحث العائلة عن منصة جديدة أكثر يسراً، بخاصة لو كان لدى بعض أفراد الأسرة خطط مستمرة للسفر، فلن يكون من العملي البحث عن شفرة التأكد من الهوية كلما حاول الشخص أن يشاهد محتوى يعجبه، وهي طريقة اعتمدت في دول عدة بالفعل بينها بيرو وشيلي وكوستاريكا، حيث اشتكى بعض المستخدمين من عدم التمكن من الدخول إلى حساباتهم بعد أن انتقلوا لمناطق جغرافية مختلفة.
اللافت أن المدير المالي لشركة “نتفليكس” سبينس نيومان طمأن الشركاء والمستثمرين بأنه يتوقع نمواً كبيراً في الاشتراكات بحلول نهاية العام، لكن مع ذلك فهو يتوقع أن تشهد الثلاثة أشهر التالية انخفاضاً إضافياً يصل إلى مليوني مشترك دفعة واحدة من عدد المشتركين الذين وصولوا حتى الآن إلى 221 مليون مشترك، وهي طمأنة تبدو حتى الآن مرتبكة، بخاصة مع سوق متغير مثل هذا، ومع المفاجأة التي لم يتوقعها أحد بانخفاض أعداد المشتركين للمرة الأولى منذ 10 سنوات، تاريخ المنصة التي اعتادت أن تحتفل بزيادة أعداد مستخدميها لا العكس.
“ديزني” تدخل ملعب المنافسة
وعلى الرغم من أن “نتفليكس” حاولت إلقاء اللوم على تداعيات الأوضاع العالمية سياسياً وعسكرياً، لكن مديرها المالي لم يستطع أن ينكر أيضاً أن المنافسة قوية مع بقية منصات البث التي تمتلك مكتبات متنوعة أيضاً، وإن كانت “نتفليكس” حتى الآن هي أكثرها إرضاء للأذواق، لكن بوجود منصات “HBO MAX” و”أبل” وHulu”” و”أمازون”، فيجب على المنصة “الأم” أن تبذل مزيداً من الجهد، وفي حين أن بعض تلك الشبكات شهد أيضاً انخفاضاً في الأسهم لكن بنسب لم تتجاوز الستة في المئة لكل منها، وهي نسبة أقل كثيراً مما خسرته “نتفليكس” على الرغم من أن تلك الشركات تعرضت للسوق المتقلبة وأزمات الحرب والانتكاسات الاقتصادية في العالم، وتلك العوامل التي ساقتها “نتفليكس” كسبب رئيس لخسائرها، إضافة إلى خدمات البث المحلية عربياً مثل “شاهد” والتي تبدو بالنسبة إلى عدد من المستخدمين مرضية في محتواها، وأيضاً يبدو مقابلها المادي ملائماً لهم، إضافة إلى خططها المستمرة في التطور.
منصة “ديزني+” تتمتع إنتاجاتها من الأساس بشعبية عريضة، إذ انطلقت نهاية العام 2019 ونجحت خلال أقل من ثلاثة أعوام في أن تستقطب 130 مليون مشترك، وهو رقم كبير مقارنة بعدد السنوات، ومن المقرر أن تبدأ الخدمة بثها في الشرق الأوسط في الثامن من يونيو (حزيران) المقبل، حيث تحاول استقطاب المستخدمين بموادها التي تتمتع بجماهيرية ضخمة، إضافة إلى جديدها وأبرزه فيلم “Encanto”الذي ستنتجه “ديزني+” في الشرق الأوسط مدبلجاً للمرة الأولى باللهجة المصرية، وهو الفيلم الحائز على “أوسكار” أفضل فيلم رسوم متحركة.
وستضم مكتبتها إنتاجات “ديزني” و”بيكسار” و”مارفل” إضافة إلى مسلسل “فارس القمر” الذي يخرجه المصري محمد دياب، وهو العمل الذي يتصدر محركات البحث في دول عربية عدة، مما يشير إلى أن جمهور المنصة في انتظاره بشغف.
السوق تزداد شراسة
ويرى محللون أن على “نتفليكس” أن تكون أكثر سرعة في تلبية متطلبات السوق، وأن تعتمد على خدمات أخرى مثل الألعاب، وهو ما بدأت المنصة في الاستثمار فيه بالفعل، إذ تحتفل كل بضعة أسابيع بإطلاق ألعاب جديدة متاحة على أنظمة تشغيل هواتف محمولة مختلفة من دون رسوم إضافية أو فواصل إعلانية، كما تبحث أيضاً عن طرق لتعزيز محتواها للأطفال كي تكون منصة شاملة للجميع، وبدأت قبل شهر عرض مسلسل جديد حول “كونغ فو باندا” الكارتون الشهير، لكنها في هذا المضمار لن تكون منافساً قوياً لـ “ديزني” بمحتواها الواسع.
وتعليقاً على التذبذب الذي تشهده أسواق البث التدفقي والأسواق الرقمية عموماً، يقول الناقد محمد عبدالرحمن إن “نتفليكس” حققت أرضية كبيرة بالتزامن مع إغلاق كورونا، وهو ما انعكس على كم وكيف إنتاجها، ولكن من ناحية أخرى جعلها ذلك تحت منظار فئات جديدة تتعرف عليها، وبعضهم بدأ ينتقدها عربيا، إضافة إلى أنها لا تلعب في السوق منفردة، فهناك منصات عربية تحاول أن تتطور باستمرار وأبرزها “شاهد” و”واتش إت”، وفي النهاية فكل المنصات تتنافس على جمهور محدود، ومن الصعب أن تكون هناك منصة واحدة مستحوذة لفترات طويلة، فقرارات الجمهور تتغير وفقاً لما يراه مناسباً له في سوق المعروض، فكل ثلاث أو أربع سنوات ستكون هناك موجة تزيح أخرى وهكذا.