لا تخفي الفنانة اللبنانية فاطمة الحاج إعجابها بأعمال الانطباعيين الفرنسيين، وعلى وجه الخصوص ماتيس وبيار بونار وإدوار فويلار، هؤلاء الذين اهتدت بهم وهي تشكل تجربتها التصويرية المُفعمة بالبهجة. ربما لفت انتباه الحاج إلى هؤلاء الفنانين علاقتها الوثيقة بالفنان اللبناني البارز شفيق عبود، الذي شاركها الولع نفسه بالحركة الانطباعية ورموزها البارزين. استلهمت فاطمة الحاج أعمالها من مشاهداتها وانطباعاتها الشخصية عن المدن التي أحبتها عبر رحلاتها المتعددة بين لبنان واليمن والمغرب وفرنسا. لقد حافظت أعمالها على طبيعة هذه المدن بألوانها ومناظرها، واجترت ذاكرتها طبيعة الضوء في هذه الأماكن وعبرت عن طبائع سكانها.
تطل علينا فاطمة الحاج بتجربة جديدة في غاليري مارك هاشم تحت عنوان “بلاد الشام”، وهي تجربة تبدو مختلفة في دوافعها، لكنها لا تنفصل عن أجواء أعمالها التي تحتفي باللون والحركة وتُقدس الحياة والطبيعة. في هذه التجربة الجديدة تتلمس الحاج ملامح الأساطير التي شكلت وعيها، وتخص من بينها تلك المتعلقة ببلاد الشام، أو لبنان تحديداً. تستعيد الحاج هذه الأساطير وأبطالها ملتمسة يد العون من رمزية هذه الحكايات واشتباكها مع الأحداث الراهنة. تحمل الأعمال تأملات الفنانة الشخصية عن بلدها في أعقاب الجائحة الأخيرة والمآسي التي مرت بها، بخاصة انفجار مرفأ بيروت. فالأعمال جميعها تشكلت من وحي هذه المشاعر التي ألمت بها عقب هذا الحادث.
مرفأ بيروت
علمت الفنانة بنبأ انفجار مرفأ بيروت أثناء إقامتها في باريس، فانتابها حينها كما تقول، شعور طاغ بغربة داخلية عميقة هزت وجدانها ومشاعرها. استهلت الفنانة هذه التجربة بثلاثين لوحة مستلهمة من أبيات شعرية عن لبنان من تأليف شعراء مختلفين، ثم قادتها تلك التجربة لتأمل أسطورة إليسار ابنة ملك صور. فبعد مقتل زوجها على يد شقيقها قررت الهرب بعيداً، وبدلاً من الانجرار إلى صراع كان من شأنه أن يدمر مدينتها قررت بناء حضارة جديدة.
من لوحة إلى أخرى تواصل الفنانة مسيرتها في قلب الأساطير، مستكشفة تفاصيلها وواصلة في ما بينها والحاضر. فمن أسطورة إليسار إلى أسطورة أوروبا، هذه الأميرة الفينيقية الحسناء التي اختطفها زيوس معتمداً الحيلة. تتبعت الفنانة رحلة الأميرة الفينيقية في البحر على ظهر زيوس الذي تنكر في هيئة ثور، وسارت في أثر أشقائها الذين تفرقوا بين المدن بحثاً عن شقيقتهم، ونقلوا في طريقهم الأبجدية الفينيقية إلى بلاد الإغريق.
أساطير وترحال
هذه الأساطير التي تربط بين الشرق والغرب تغازل شغف الفنانة بالسفر والترحال، وتشتبك بعمق مع تجربتها الفنية، هذه التجربة المعلقة بين ثقافتين، فهي اللبنانية المقيمة في باريس، التي تتشكل ألوانها تحت تأثير حنينها لضوء الشرق الدافىء. تستلهم الفنانة أعمالها من الشرق، لا بعين العابر وإنما بعين المحب العاشق لتفاصيله ومكوناته. وهي أسباب تجعلها بعيدة كل البعد عن النظرة الاستشراقية للفنانين الغربيين، هذه النظرة السطحية المشوهة التي تلقيها ثقافة على أخرى. في أعمال فاطمة الحاج تجتمع عديد من المشاعر المتناقضة، كالهدوء والتمرد والحلم والشك، كما يأتلف السكون والحركة مع الضوء والمساحات اللونية. تختزل الحاج العناصر في أعمالها إلى حد الاقتراب من التجريد، وهي توليفة فنية تميز أعمالها.
يمثل معرض “بلاد الشام” نزهة في حدائق فاطمة الحاج الخيالية، وهو أشبه برحلة بين الشرق والغرب، حيث يمكننا أن نلمح بين تفاصيل اللوحات أشباحاً لقلاع ملونة، ومشاهد حالمة لأميرات فارسيات مستلهمة من نصوص للشاعر نظامي الكنجوي، تشاركها المساحة نفسها شخصيات أسطورية إغريقية وفينيقية عادت إلى العالم المعاصر من أجل إنقاذ لبنان.
ولدت فاطمة الحاج في لبنان عام 1953، وحصلت على الدبلوم عام 1978 من معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية، ثم أكاديمية الفنون الجميلة في لينينغراد، ثم دبلوم المدرسة الوطنية للفنون الزخرفية في باريس. قامت الحاج بتدريس الفن في معهد الفنون الجميلة في بيروت، وهي تعرض أعمالها بانتظام بين بيروت وباريس، إلى جانب عديد من العواصم العربية والأوروبية الأخرى.