هي حكاية ربما تكون من أغرب حكايات الغرام في تاريخ الموسيقى الغربية، حكاية تبدأ تحديداً ذات يوم عادي من شهر سبتمبر (أيلول) 1853 لتنتهي بعد ذلك بـ 43 سنة في مقبرة بمدينة فيينا، أما بطل الحكاية فكان في البداية شاباً في الـ 20 من عمره، قرع في ذلك اليوم البعيد باب الثنائي الموسيقي روبير وكلارا شومان في مدينة داسلدورف الألمانية.
كان الشاب مجهولاً تماماً، لكن صاحبي البيت كانا من أشهر الموسيقيين في زمانهما، وكانت غاية الشاب في منتهى البساطة. يريد أن يسمع الموسيقيين الكبيرين واحداً من أعماله لمعرفة رأيهما في موسيقاه، لكن اللقاء سرعان ما سيتحول إلى عاصفة غرام ووله تغير حياة الثلاثة معاً، حتى وإن كان رب البيت لن يلبث بعد حين أن يُدخل إلى مأوى الأمراض العقلية، ولكن ليس بسبب ذلك اللقاء بل لأسباب عدة متراكمة، لعل أهمها بقاء موسيقاه غير مفهومة مقابل ارتفاع مكانة زوجته العازفة الفريدة من نوعها إلى درجة أنها حين عزفت يوماً أمام أحد الأمراء التفت هذا إلى الزوج سائلاً إياه عما إذا كان هو الآخر موسيقياً بدوره! وطبعاً ليس ما يهمنا هنا هو ذلك الوضع المستشري بين روبير شومان وزوجته كلارا، فالحكاية كانت معروفة في كل أوروبا حينها، بل ما يهمنا هنا هي الحكاية التي عاشها الثلاثة منذ وصل الشاب إلى باب بيت الزوجين، وقدم نفسه باسم لن يصير ملء الأسماع والأبصار إلا لاحقاً: جوهان برامز.
في حضن عائلة المحبوبة
وهذه الحكاية وإن كانت معروفة ومتداولة منذ بدايتها، فها هو كاتب إيطالي معاصر هو لويجي غوارنييري يحولها إلى رواية أصدرها العام 2010 لتحقق من فورها نجاحاً كبيراً انضاف من فوره إلى نجاح مماثل كانت قد حققته قبل ذلك بسنوات قليلة رواية مماثلة له عنوانها “حياة فرمير المزدوجة”، وتتناول بعض غراميات رسام دلفت الشهير، جوهان فيرمير، صاحب لوحة “الفتاة ذات اللؤلؤة” التي تزعم الرواية أنها نتجت من غرام الرسام بالفتاة نفسها التي رسمها في اللوحة، غير أن الفارق هنا كبير، فالغرام الذي نشب بين برامز وكلارا شومان كان حقيقياً أكدته السير العديدة التي تناولت هذا الموسيقي الكبير وشومان وامرأته، لكن ما أتى جديداً في رواية غوارنييري إنما كان الأسلوب الذي كتب به هذا المؤلف نصّه على شكل رواية رسائل، أي تتألف من تلك الرسائل التي افترض أن برامز ظل يكتبها إلى كلارا طوال 43 سنة، لتكون آخرها تلك التي كتبها بعد ساعات من عودته من جنازتها، مختتماً بها 43 سنة من غرام ستقول لنا الرواية إن لحظة الذروة فيه كانت حين ألّف برامز من وحيه تلك السوناتا التي أعارت الرواية عنوانها، أو بالأحرى العنوان الذي اختارته كلارا نفسها للسوناتا، ولكن أين هو هذا العمل؟ هل وجد أصلاً؟ هل عزفه أحد؟ هذه السوناتا لا وجود لها ما دامت الرواية تفيدنا أن كلارا نفسها قد أزالتها يوماً من الوجود مع أنها ظلت تعزفها مرة كل يوم من أيام حياتها، ولكن فيما تكون منفردة بنفسها في صالون بيتها، وكان روبير ينقحها في البداية ليصلا به إلى مستوى العمل السامي قبل أن يتفقا على أنها لا يجب أن تعزف أمام الجمهور، فهي من الحميمية بحيث قد تدمر حياة هذا الثنائي، حتى وإن كان روبير قد وصل إلى حال من الجنون حينها جعله ينقل إلى مأوى “إندينيخ” الذي لن يخرج منه بعد سنتين إلا إلى المقبرة.
رسالة أخيرة
ولنعد هنا إلى برامز شاباً وقد قام في ذلك اليوم الذي بدأت فيه الحكاية برحلة طويلة عبر ألمانيا، بالقطار حيناً وبعربات تجرها الأحصنة حيناً آخر، ساعياً إلى مقابلة شومان، ولقد تمت المقابلة بالفعل ليصبح برامز الشاب من رواد منزل الزوجين بصورة يومية، ويهيم بربة البيت هياماً سيعبر عنه في الرواية على الأقل، في عدد كبير جداً من رسائل تقول الرواية على أية حال إنه لن يرسلها إلى كلارا أبداً، بل سيقول هو نفسه ذلك في الرسالة الأخيرة التي أشرنا إليها والتي بدورها لن تصل إلى كلارا أبداً، ولكن لأنها حين كتبها كانت قد غادرت هذا العالم حاملة معها سرهما الكبير، إضافة إلى مواهبها الموسيقية التي نعرف أنها قد جعلت منها طوال حياتها واحدة من أعظم العازفات والمشاركات في أداء الـ “كونشيرتات” في العالم، وفي تلك الرسالة ها هو برامز وقد بات يدنو من عامه الـ 70 من دون أن يتضاءل هيامه بتلك المرأة الرائعة التي تجايله ولو قليلاً، ولكن أيضاً من دون أن يهبط بذلك الغرام إلى ما يجعله أقل من حكاية حب بالغة السمو كما هي بالغة الغرابة، وها هو يقول في الرسالة “محبوبتي الغالية. ها أنا أكتب لك هذه الرسالة الطويلة وقد عدت لتوي من جنازتك، ولسوف تعذرينني إن كنت أكتب اليك حتى اليوم، حتى ولو أنك لم تعودي بيننا، وحتى ولو أنك لتعاسة حظي تركتني إلى الأبد، لكني ومنذ يوم 30 سبتمبر (أيلول) 1853 لم أتوقف عن الكتابة لك يوماً واحداً، ولا يوماً طوال 43 عاماً كتبت لك فيها كل يوم من دون توقف، ولو أنني استنكفت عن أن أرسل إليك العديد من تلك الرسائل التي كتبتها فأنت كنت قد أضحيت في حياتي عادة لا يمكن الاستغناء عنها، عادة لا أعرف كيف أستغني عنها وكيف أتوقف، وذلك بالنظر إلى أننا حتى ولو بقينا بعيدين من بعضنا طوال شهور أو طوال سنوات، لم يمر في حياتي يوم لم أفكر فيك”.
نكران ذات أسطوري
وكما قلنا تتألف رواية غوارنييري من مثل هذه الرسالة، بل من مئات الرسائل التي ينسبها الكاتب إلى برامز، ونعرف أن بعضها يدنو كثيراً من بعض ما كتبه بالفعل، لكن معظمها من تأليف الكاتب الإيطالي مع العلم أنها تعبق بنفس برامز وهواه الذي بقي حياً على الرغم من رحيل صاحبي العلاقة الآخرين فيه، وهو هوى تحول، كما تقول لنا الرسائل نفسها، إلى ارتباط جعل الموسيقي ينكر ذاته ليعيش حياة محبوبته مهتماً حتى بشؤونها العائلية وأطفالها من زوجها الراحل، بل حتى بهذا الأخير حين كان يزوره في مأواه قبل موته.
وإذا صدقنا رسائل برامز وما تحمله من نكران للذات، يبدو هو بدوره غريباً عن العالم الذي نعيش فيه، وقد يحدث لنا ونحن نقرأ صفحات عدة من الرواية أن “ننسى لوهلة أو لوهلات أن جوهان برامز كان بدوره كما حال روبير شومان وكلارا موسيقياً”، كما أشار عدد من النقاد الذين علقوا على رواية الكاتب الإيطالي، بل “ننسى حتى أن برامز وبعدما تجاوز سنوات اللقاءات الأولى مع الزوجين الكبيرين بات يعتبر بأعماله الموسيقية الكبرى موسيقياً يوضع في صف بيتهوفن وباخ”، كما قال معلقون آخرون.
من هامبورغ إلى فيينا
بقي أن نذكر أن برامز المولود عام 1833 في هامبورغ كان في الـ 20 حين التقى آل شومان، وكان في الـ 23 حين رحل شومان عن هذا العالم تاركاً له مجال أن يرتبط بكلارا بالزواج لكنهما لم يفعلا، بل راح برامز يخوض غمار الإبداع الموسيقي في وقت اهتم كما تقول الرواية بمحبوبته وأطفالها، وحتى وإن تأخر عالم الموسيقى في الاعتراف به، فإن أعماله في مجال التأليف السيمفوني والـ “كونشرتو” وغيرها من مؤلفات راحت تفرض حضورها بالتدريج، وإن كان قد عجز عن فرض نفسه كقائد أوركسترا في أية مدينة ألمانية، مما دفعه للإقامة في فيينا حيث قيض له أن يدير مجموعتين أوركستراليتين تباعاً، في وقت كتب فيه “القداس الألماني” الذي سيعتبر دائماً من أهم إنتاجاته، وسيوضع في مرتبة لا تبعد من مرتبة “قداس سان ماثيو” لباخ و”القداس الجنائزي” لموتسارت، وسيرحل في فيينا عام 1897 بعد سنة من رحيل كلارا.