لم تتوقف اكتشافات السعودية عند الآثار المادية للحضارات العريقة التي تعاقبت على أراضيها، ولكن تجاوزتها إلى تعقب آثار أخرى لا تقل إبهاراً، فوجهت أخيراً وزارة الثقافة في البلاد اهتمامها إلى “الأدب العذري”، بعد أن قالت إن مؤسس المدرسة الغنية “جميل” إنما تغنى بمحبوبته الأثيرة “بثينة” في إحدى جنبات “وادي القرى” الذي يشق مدينة العلا شمال غربي البلاد.
وتداول السعوديون على نطاق واسع، مقطعاً مصوراً شاركه وزير الثقافة الأمير بدر بن فرحان على حسابه في “تويتر”، يوثق شفوياً كيف أن الشاعر العربي جميل بن معمر، عند قوله “ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة… بوادي القرى إني إذاً لسعيدُ”، كان قد بث أشواقه إلى مرابع قومه من “بني عذرة” في تلك الديار، حتى صار الفن الأدبي “العذري” يسمى باسمهم، لأن أحد أبنائهم كان مثله الأعلى وحامل لوائه، قبل أن يصبح “مجنون ليلى” رائداً آخر وأسطورة، ليزيد هذا الغرض الشعري غناء وأصالة.
أعين لا تنظرون إليها
وأشار الفيديو إلى حياة الشاعر الذي ولد في سنة 82 هجرية، 701 ميلادية، من قبيلة “بني عذرة” من قضاعة التي تعود أصولها لحِميَر، حيث سكنت قبيلته وادي القرى منذ القدم، الذي عادة ما تظهر في أبياته ملامح وصفات بيئته التي أثرت في شعره، وتعود قصة حب جميل بن معمر لبثينة عندما رأها وهو يرعى إبل أهله، وجاءت بثينة بإبل لها لترد الماء، فنفرت إبل جميلٍ فسبّها، ولم تسكت بثينة وإنما ردت عليه، أي سبته هي أيضاً. وبدلاً من أن يغضب أعجب بها، واستملح سبابها فأحبها وأحبته، وبدأت السطور الأولى في قصة هذا الحب العذري الخالدة.
وأول ما قاد المودة بيننا… بوادي بغيض، يا بثين، سباب
فقلنا لها قولاً فجاءت بمثله… لكل كلام، يا بثين، جواب
وتمر الأيام، وسطور القصة توالت سطراً بعد سطر، فتناقل وادي القرى قصتهما وأخبارهما، لتصبح ميزة الحب العذري لهذه القبيلة، حيث كانت مشتهرة بالجمال والعشق حتى قيل لأعرابي من العذريين، “ما بال قلوبكم كأنها قلوب طير تنماث – أي تذوب – كما ينماث الملح في الماء؟ ألا تجلدون؟ قال: إنا لننظر إلى محاجر أعين لا تنظرون إليها”.
وسئل آخر، “ممن أنت؟” فقال، “من قوم إذا أحبوا ماتوا”، فقالت جارية سمعته، “عذري ورب الكعبة”.
العلا مدينة الحب والتاريخ
ففي مدينة الحب والتاريخ “العلا“، بدأت السعودية توثيق تراث أصيل وعراقة تاريخية وثقافية ملفتة، وتتميز بيئتها بثرائها الطبيعي، حيث تحتضن وادي القرى، وهو واد خصب يجري في منتصف العلا، ويمتد من الشمال إلى الجنوب تحيطه الجبال والسهول. وكان الوادي موطناً لعديد من الحضارات المتعاقبة التي ما زالت تمتلك لها شواهد أثرية على امتداد الوادي، ومن بين المواقع التاريخية أيضاً ماهو أقدم من الميلاد، مثل مملكة “دادان”، حيث استوطن اللحيانيون والأنباط، ولعبت العلا دورها عبر التاريخ كملتقى للحضارات والثقافات، وكانت محطة مهمة على طرق التجارة العالمية بداية من القرن الأول قبل الميلاد.
وتقع العلا على طريق التجارة القديم “طريق البخور” الذي يربط جنوب شبه الجزيرة العربية بشمالها، وبالحضارات التاريخية المجاورة في كل من مصر وبلاد الشام وبلاد الرافدين. وكانت مدنها وواحاتها بمثابة محطات عالمية للتبادل التجاري لمختلف السلع. وتمتاز العلا بجمالها ورسمها التاريخي بكل شموخ للمعابد التي تنتشر في كل مكان، وماضي المعابد بأحجام مختلفة على جبالها تلال تمثل أطلالاً متراكمة من المباني الحجرية.
التنقيب للبحث عن قصص ممالك العلا المنسية
وعند كل جبل وتل ومقبرة قصة رصدها ماضي العلا بين حب، وحرب، وحزن وفرح، حيث بدأ الفريق البحثي “السعودي-الفرنسي” المشترك، منذ مطلع 2020 في التنقيب عن المواقع المتفرقة، للبحث عن قصص ممالك العلا المنسية في السعودية، كما علق أحد أفراد الفريق البحثي.
وقال جيروم رومر، الباحث لدى المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، إن أعمال الحفر اقتصرت في ما سبق على منطقة المحمية الرئيسة.
وأضاف لوكالة الصحافة الفرنسية، “نود تكوين فكرة شاملة عن التسلسل التاريخي للموقع وخريطته وثقافته المادية واقتصاده”. وتابع، “هو مشروع شامل نحاول فيه في الأساس الإجابة عن كل هذه الأسئلة”.
وتشتهر العلا، التي أصبحت منذ فتحها للعامة في 2019 كوجهة سياحية رئيسة، بالمقابر الملكية في الحجر، أو ما تعرف بـ”مدائن صالح”، التي حفرها الأنباط في الصخور منذ 2000 عام، وهم ذاتهم من بنوا مدينة البتراء في الأردن قبل ظهور الإسلام.
واكتسبت العلا مكانة بارزة في مسعى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لإحداث تغيير كبير في شكل الاقتصاد والمجتمع السعوديين. وتعول السعودية على السياحة في إطار محاولاتها للانفتاح على العالم وتنويع مواردها الاقتصادية، بدلاً من الاعتماد على النفط.