كان بوسع المرء ملاحظة الارتباك في أوساط فريق العلاقات العامة الذي مثل فيلم “سبيريتيد أواي” Spirited Away للمخرج الياباني هاياو ميازاكي حين عرض ضمن مهرجان برلين السينمائي مثل هذه الأيام قبل عشرين سنة. لقد جاء العمل بشكل فيلم رسوم متحركة ياباني موجه (على ما بدا) للأطفال في الدرجة الأولى. والفيلم الذي صنع بفضل “استديو غيبلي”، وهو شركة إنتاج يملكها ميازاكي، حقق خلال الصيف الذي سبق نجاحاً منقطع النظير في شبابيك التذاكر اليابانية، بيد أن الصحافيين والموزعين حتى تلك اللحظة ما كانوا يتوقعون رؤيته في المسابقة الرئيسة لمهرجان برلين (السينمائي الدولي).
برنامج المهرجان المذكور كان حافلاً في تلك السنة، ويضم أفلاماً نخبوية من العيار الثقيل صنعها مخرجون كبار أمثال كوستا غافراس، بول غرينغراس، مارك فورستير، وبيرتراند تافيرنيه. فما الذي سيفعله فيلم ميازاكي الذي يروي قصة فتاة صغيرة فصلت [تاهت] عن أهلها في مدينة ملاهي مهجورة، إلى جانب أفلام مثل “بلودي صانداي” Bloody Sunday و”آمين” Amen و”مونستيرس بول” Monster’s Ball؟ الانطباع الأول أوحى أن منظمي مهرجان برلين راحوا يأتون بنمط أعمال مثيرة رخيصة. والنقاد المهمون آنذاك لم يكونوا على عجلة من أمرهم في مراجعة أفلام الرسوم المتحركة المخصصة للصغار، لكن الفيلم، على الرغم من ذلك، مضى ليفوز بجائزة المهرجان الكبرى، الدب الذهبي.
اليوم بات ميازاكي مخرجاً مرموقاً في الغرب كما في آسيا، لكن الحال كانت مختلفة تماماً قبل عقدين من السنوات. حينها وهو في مطلع ستينياته (ولد سنة 1941)، وقبل “سبريتد أواي”، كان سلفاً اسماً كبيراً في عالم الرسوم المتحركة الياباني، بيد أن أفلامه لم تكن قد وجدت طريقها بعد إلى صالات السينما على صعيد دولي. في الولايات المتحدة سنة 1997 كانت هناك آمال كبيرة معقودة على فيلمه الروائي “الأميرة مونونوكي” Princess Mononoke، الذي قامت شركة “ميراماكس”، التابعة لـ”ديزني” آنذاك، بإطلاقه، لكن نتائجه في شبابيك التذاكر جاءت مخيبة – والخيبة بطعمها المر شملت أيضاً العاملين في “استديو غيبلي” حين رأوا طريقة تعامل هارفي وينستاين وشركاؤه مع عملهم.
في الإطار نفسه وفي مطلع 2002، كان المرء إذا ذكر شيئاً أمام النقاد في أوروبا والولايات المتحدة عن الرسوم المتحركة اليابانية، فإن معظمهم سيفكرون على الفور بـ”المانغا” العنيفة. إذ قليلون كان لديهم فكرة عن الأفلام الرؤيوية التي كان يصنعها ميازاكي على مدى سنوات طويلة. إذاً كيف استطاع “سبيريتد أواي” مقارعة وتبديل أفكار هؤلاء المسبقة والمكرسة؟ الجواب بسيط. في اللحظة التي يبدأ فيها المرء بمشاهدة فيلم من أفلام ميازاكي يكتشف أنه إزاء عمل متمايز بالفعل. الألوان مذهلة. التهكم والفكاهة آسران. يلتقط المخرج صورة العالم من منظار طفل، لكن على الرغم من ذلك فإن فيلمه لا يختار أبداً وجهة ساذجة. كما بوسع أفلامه أيضاً أن تخيفك بمقدار ما تبهجك. فهي تدمج السوريالية والقبح مع أعلى درجات الرقة. كذلك تأتي أعماله يابانية بامتياز من ناحية الأسلوب، لكنها أيضاً تستعين بالأدب الغربي. إذ إنه شديد الإعجاب بـأورسولا لو غوين وبمؤلف كتاب “ليتل برينس” (الأمير الصغير)، أنطوان دو سان أوكزوبري. ويمكن للمرء أن يرى في “سبيريتد أواي” أثراً من “ثرو ذا لوكينغ غلاس” Through the Looking-Glass للويس كارول.
ويقر ميازاكي من جهته بتقديره لأفلام “ديزني”، مثل “سنو وايت” (بياض الثلج) Snow White و”ذا سيفن دوارفس” (الأقزام السبعة) the Seven Dwarfs و”فانتازيا” Fantasia و”بينوكيو” Pinocchio، لكن، وفق ما قال لأحد محاوريه، “جاء تعامل (أفلام ديزني تلك) مع أفكار البشر العميقة متسماً بتبسيط لا أستسيغه كثيراً”. وهذه ملاحظة تكشف عن كثير من أفكاره وتشير إلى السبب الذي جعل الراشدين كما الصغار في الغرب يتيمون أخيراً بأعماله. إذ إن الأفكار الإنسانية العميقة في أفلام ميازاكي دائماً لها الأهمية الكبرى.
إلى هذا وبالعودة إلى “سبيريتد أواي”، فهو يتمحور حول فتاة بعمر العاشرة اسمها تشيهيرو إوجينو (ملقبة بـ”سين”). تظهر في البداية بالمقعد الخلفي بسيارة والديها، وهي مغناجة صغيرة، وغير سعيدة باضطرارها إلى الانتقال من منزلهم (إلى منزل آخر)، حيث تبدأ بمساءلة سلطة الأهل. وفي طريقهم إلى المنزل الجديد، يسلك الوالد طريقاً مختصرة، ويضيع وينتهي بهم الأمر في ما يبدو أنه مدينة ملاهٍ مهجورة. ويعثر الوالد وزوجته على طعام شهي متروك على رف كشك للبيع. ما من أحد هناك كي يقبض ثمن الطعام، فيسارعان إلى التهامه. وفيما تعاينهما تشيهيرو وهما يلتهمان الطعام تندهش من رؤيتهما وقد باتا أشبه بخنزيرين. ثم تغدو هي نفسها هائمة في عالم كأنه حلم مبهج، وفي الوقت نفسه شديد الخطر. ومثل دوروثي في فيلم “ذا ويزرد أوف أوز” The Wizard of Oz، تصبح تشيهيرو بحاجة إلى العثور على طريق العودة إلى البيت (والأمان).
لـميازاكي أنداد قلائل من ناحية تناول العوالم المتخيلة على الشاشة. ويأتي “سبيريتد أواي” مليئاً بمخلوقات غريبة، لكن خطرة يمكنها على الدوام معرفة إن كان ثمة بشر حولها. ويتميز الفيلم بالطرافة والغنائية. وهو يتضمن كثيراً من المشاهد السحرية، كذاك المشهد الوارد في مطلع العمل باللحظة الغريبة التي تبدو فيها تشيهيرو آخذة بالتحول إلى هواء. وهي لا تستعيد كيانها المادي إلا حين تقوم صديقتها الغامضة، هاكو، بإعطائها طعاماً لتأكله. وتختبر تشيهيرو الصغيرة والمسكينة مختلف أصناف التجارب الخيالية والكابوسية. في هذا الإطار تقوم يوبابا، الساحرة الشنيعة والمزدانة بالجواهر، والتي تشرف على نادي الاستحمام العام، بالتهديد في تحويلها إلى كومة فحم، أو إلى خنزير صغير، أو، وهذا الأخطر، بسرقة اسمها. كما يتناقش آخرون في أمر القيام بقليها أو سلقها.
وكما هو الحال مع الحكايات الخيالية المثلى، فإنه من الممكن تأويل “سبيريتد أواي” بطرق كثيرة. فهو قصة انتقال من الطفولة إلى الرشد يظهر ميازاكي من خلالها قدرة خارقة في النفاذ إلى رأس وأفكار بطلته الصغيرة. إنه مغامرة، يمكن قراءتها حتى كحكاية خرافية إيكولوجية. وبالرغم من مهاراته الفنية الرائعة وغنى موضوعته، فإن الفيلم كان على الأرجح سيلقى في الغرب المصير نفسه الذي لاقاه “برينسيس مونونوكي” Princess Mononoke، لولا الانتصار الذي حققه في (مهرجان) برلين.
ويمكن القول في السياق إن أكثر شخص يعود له الفضل في شعبية ميازاكي بالغرب اليوم هو المنتج الفرنسي فنسينت مارافال من شركة “وايلد بانش” المستقلة (التي دعمت أفلام مشاكسة مثل [سيتي أوف غاد City of God] لفيرناندو ميريل و[إريفيرسيبل Irreversible] لغاسبار نو). فهو (مارافال) كان قد سمع من زميل له في “استديو كانال” الذي كان يعمل فيه، عن ميازاكي (هذا العبقري في مجال فن التحريك [محرك الصور]). وقام مارافال بمشاهدة أفلامه. “لقد ذهلت”، قال لي عن تجربته تلك.
وفي رحلة عمل إلى اليابان طلب مارافال لقاءً مع “استديو غيلبي”. “وذهبت عدة مرات للقائهم”، يقول مدير الأعمال الفرنسي راوياً لي كيف نسج بالتدريج علاقته مع الشركة اليابانية، والتي كانت بعد التجربة غير المبهجة [السيئة] مع وينستاين، حذرة جداً في تعاملها مع أطراف غربية. وهو سرعان ما أبلغ أن ميازاكي وفريقه شديدي الحرص على شركتهم وتجاه ما ينتجونه. وهم ليسوا مهتمين بجني أرباح سريعة على المدى القصير، بل يريدون أن تعرض أفلامهم من جديد في صالات السينما وأيضاً للأجيال الجديدة – وهم لن يسمحوا لموزعين أجانب في القيام بإعادة منتجة أعمالهم، أو في إعادة تسجيلها أو تعديلها بأي طريقة من الطرق. وهم بغية محاربة القرصنة أوقفوا عرض أفلامهم بصيغة عالية الدقة على التلفزيونات أو في أقراص الفيديو.
وفي أواخر شهر ديسمبر (كانون الأول) 2001، أدرك مارافال أن ميازاكي قد يكون جاهزاً بعد شهرين لتقديم “سبيريتد أواي” لمسابقة مهرجان برلين. وسبق للمخرج الياباني سنة 1998 أن مر بتجربة غير مشجعة في برلين مع فيلم “برنسيس مونونوكي” (الذي عرض خارج المسابقة أمام جماهير غير مهتمة)، لكن مع دعم (شركة) “وايلد بانش” له، صار مستعداً للمحاولة ثانيةً.
لكن، حينها كان الموعد الأخير لتقديم الأفلام قد انقضى. “في ذلك الوقت لم يكن لدينا عقد. وذاك مثل بداية العلاقة”، يذكر مارافال شارحاً كيف بدأ عمله مع “استديو غيلبي”. “اتصلنا ببرلين كي نتكلم مع [بيكي بروبست] (مديرة السوق البرليني) وقلنا لها إنه عليها مشاهدة الفيلم، إنه تحفة”. شاهدت بروبست الفيلم ووافقت على أخذه في الحال. وقد سمح له بالدخول ضمن المسابقة، لكن على الرغم من هذا كان لا يزال هناك شكوك سائدة في أوساط النقاد والموزعين ينبغي تجاوزها. ويذكر الموزع البريطاني ويل كلارك أنه شاهد الفيلم في صالة برلينية شبه خالية. عن ذاك يقول “كان هناك شخصان فقط غيري في الصالة”. وقد ظل يردد في نفسه، إنه أفضل فيلم شاهده على مدى أشهر عديدة، إن لم يكن في سنوات. وعلى الرغم من هذا لا أحد يهتم به. ويقول “كان تأثيره عليّ هائلاً، هائلاً من دون أي شك. إنه بالفعل سينما صافية، أليس كذلك… ميازاكي عبقري في خلق هكذا عوالم غير إعتيادية وبثّ الحياة فيها”.
وفي اللحظة التي انتهى فيها الفيلم سارع كلارك إلى “وايلد بانش” لإقناع مارافال كي يبيعه الفيلم. عن ذلك يروي قائلاً: “في الحقيقة سارعت بالذهاب إلى مكتبهم”. وفي ذلك الوقت لم تكن شركته “أوبتيموم ريليزينغ” لاعباً رئيساً في سوق التوزيع البريطاني. وقد دفع مبلغاً يفوق ما يمكن لشركته أن تتحمله في الحقيقة. وذاك ساعد في أن لا تسعى وراء الفيلم شركة توزيع أخرى في بريطانيا. وقد حقق “سبيريتد أواي” في النهاية ثروة لـ”أوبتيموم”، حيث باع، من ناحية الـ”دي في دي” فقط، 750 ألف نسخة. وبالنسبة لصالات السينما خصص كلارك نسخة مدبلجة كي تعرض بأوقات نهارية ليتمكن الصغار من مشاهدة الفيلم، ونسخة أصلية مع ترجمة لجمهور الراشدين كي تعرض في أوقات مسائية. كما بدأ بشراء حقوق أفلام ميازاكي الأقدم ووضع إشارة “استديو غيلبي” عليها.
واليوم كلما عرض فيلم “سبيريتد أواي” كلما صار الناس راغبين أكثر بمشاهدته. ومنذ أن بات متوفراً على “نتفليكس”، تزايدت مبيعات الـ”دي في دي”، ولم تتراجع، كما تستمر عروض الفيلم في صالات السينما.
ومارافال من جهته أنتج ونفذ أكثر من 60 فيلماً مع مخرجين أمثال كين لوش وستيفن سوديربيرغ وشون بين ونيكولاس ويندينغ ريفن، لكن من الجلي أن “سبيريتد أواي” ما زال يؤثر فيه اليوم تماماً مثلما أثر فيه أول مرة شاهده.
“لقد شاهدت [سبيريتد أواي] 15 مرة، وما زلت أبكي في المشاهد نفسها… أعتقد أنه مزيج من الشعر والإنسانية والبيئة [الهموم البيئية] والخيال. ميازاكي بالنسبة لي هو أحد أهم الفنانين في زمننا”، يقول مارافال عن المخرج الياباني الذي كان ربما سيبقى كنزاً مجهولاً لمعظم المشاهدين الغربيين طوال هذه السنوات لو لم يقم مارافال شخصياً بتهريب “سبيريتد أواي” إلى مهرجان برلين السينمائي من الباب الخلفي.