في الوصف التعريفي لأحد أعماله، كتب الفنان سعيد قمحاوي التالي “أستخدم أعمالي الفنية على مدى الثلاثين عاماً الماضية لحماية جوانب فطرية وقيم اجتماعية يجب ترسيخها والاعتزاز بها، أكشف عن التباينات الثقافية والتحولات الاجتماعية بغية الحفاظ على القيم الأخلاقية والمعرفية الأكثر أصالة في مجتمعنا”، من هذا الوصف الذي كان ترويسة لعمل أسماه “على وضح نقى” يمكن الانطلاق في الحديث عنه، وإن كان هذا العمل بذاته لا يعنينا لكنه يجسد الحالة التي تشكل حالته كفنان وقيمه التي ينطلق منها.
الأستاذ سعيد، الذي غادر قريته في ضواحي الباحة إلى الرياض للالتحاق بمعهد التربية الفنية، عمل بعد تخرجه منها معلماً في المرحلة الابتدائية في مدينة جدة يدرس التربية الفنية، تلك التجربة كانت فرصة لتشكيل قيمه كفنان، وإن كانت مهنة معلم التربية الفنية في الظروف التعليمية التي عمل بها لا تعطي صاحبها المساحة الكافية لإطلاق العنان لمهاراته، إلا أن الظروف ذاتها كانت فرصة لتشكيل مضامينه التي تحدد قيمة أعماله في الفن المعاصر.
يقول قمحاوي الذي ترك الفصول الدراسية وتفرّغ للفن، إن “الخير والشر هما ديدن هذا العالم، وطالما أن الظلام موجود، فالتمسك بالنور وغرسه في الأجيال القادمة هو مسؤوليتنا الأولى”.
المنهج الخفي
في حي “جاكس” في الرياض، حيث ينزوي الفنانون بعيداً من ضجيج العاصمة، يعرض سعيد قمحاوي أعماله الفنية على جدران الاستوديو الخاص به، وخلف تلك الجدران يخفي بعضاً منها.
في مستودع خلفي يخفي قمحاوي قطعة يسميها “المنهج الخفي”، هذا الاسم يعطي تفسيراً لسبب بقائها هناك فترة طويلة، لوحة تعليمية كبيرة تشرح الحروف الأبجدية العربية عبر الصورة والوصف كما لو كانت مصممة للأطفال، لكن بالطريقة التي يخلقها صراع النور والظلام.
إذ يقوم العمل على شرح الحروف الأبجدية العربية عن طريق صور توضيحية حصرت في الأيديولوجيات المتصارعة في المنطقة ومعتقداتها خلال السنوات الماضية. ويهدف الفنان من خلال ذلك إلى إبراز المناهج الخفية التي يتلاقاها النشء القائمة على تجاذب التيارات للعقول الغضة.
كان بطل هذه القصة الذي عمل معلماً في مدينة جدة شاهداً على فترة صراع الضدين هذا في الفصول الدراسية، لم تكن المعركة متكافئة لذلك اختار ساحة أخرى تكون فيها سيطرته على أدواتها أكثر إحكاماً، فتفرغ للفن وقدّم أعمالاً عدة ألقى من خلالها التحية على تلامذته من بعيد.
قال قمحاوي “ترجمتُ خلفيتي التربوية فنياً، الفنانون عادة يبحثون عن المعنى في بداية مسيرتهم، في الطبيعة، أو يستدعونها من التراث أو مصادر إلهام أخرى، أنا لم أكن مضطراً لخوض هذه الرحلة، كنت أملك المعنى وبحثت عن وسيلة تقديمها فقط”.
وأضاف “المعلم عادة لديه طريقة يحب أن يتعامل بها مع الأشياء، تتركز تجربته في أن يشير إلى الظلام والنور في العالم، وأن يكون ذلك الشخص الذي يقول هذا خطأ وهذا صحيح، كما هي حال المعلم مع تلاميذه”، وهو ما كان في تجربته خلال السنوات الثلاثين الماضية.
عُرض هذا العمل للمرة الأولى في 2016، وواجه صعوبة في عرضه بعد ذلك بسبب إشارته إلى ما كان يثير أقصى درجات الصدام الاجتماعي في حينها، وهو ما حد من قدرة العمل على الانتشار على رغم أنه وجد طريقاً إلى عدد من المعارض المعتبرة مثل “حافظ غاليري” في 2017.
يُعتّم المصابيح لأن لا تضيء
يرى سعيد المعلم أن النور والظلام يمثلان له دائماً جوانب جديدة لوصف الثقافة، منبعها ونتائجها، وكفنان يرى أن “النور الذي تنطوي عليه ثقافتنا قابل ليكون حياة معاصرة حية ومعاشة وقابلة للالتزام والتطوير”، وعليه كان عمل “الأنوار المعلّقة” الذي أضاء قاعات معرض “21:39” في 2019 بجدة بالظلام الدامس.
عمل الأنوار هذا بدأ من أصول العتمة والنور واللعب على التضاد، بخاصة أن هذه القطعة التي صوّرت أسلاك الأنوار المعلّقة تحمل في داخلها شكلاً من أشكال التضاد في حضورها الاجتماعي، وهي التي تزين حفلات الزواج المقامة في الساحات المكشوفة، وفي الوقت نفسه تعلو فوق رؤوس المُعزّين والوجوه الباكية في المآتم.
تمتد الأسلاك الكهربائية ويتدلى منها 55 مصباحاً مصنوعة من الخشب، بعد أن تم حرقها ليتحول إلى اللون الأسود، وتشكل مصابيح سوداء، مجسدة بهذا جدلية النور والظلام والفرق بينهما، وكأن التعتيم صار ممارسة ممنهجة لأجل الحفاظ على الظلام.