أحدث عرض فيلم “بشتقلك ساعات” للمخرج المصري محمد شوقي حسن الذي يتضمن مشاهد مثلية، ضجة محدودة في مصر، ضجة لم تصل إلى حد البلبلة التي أحدثها فيلم “أصحاب… ولا أعز” في أواخر الشهر الماضي. الصحافة المصرية تناولت الفيلم الذي يحكي عن علاقات مثلية بين رجال مصريين وعرب وأجانب، بعناوين فضائحية سطحية شعبوية في محاولة لإدانة العمل والتحريض على صناعه. البعض كرر المصطلح غير الدقيق “الفيلم يمثل مصر”، وهذا ليس صحيحاً ذلك أن الأفلام لا تمثل بلداناً بأعينها في المهرجانات، علماً بأن “بشتقلك ساعات” هو إنتاج مصري – لبناني – ألماني مشترك. إلا أن السبب في أن النعرة التي حاول الإعلام افتعالها على مدى بضعة أيام لم تتطور إلى عاصفة كالتي حدثت مع “أصحاب… ولا أعز” هو أن ما من أحد من الصحافيين استطاع مشاهدة الفيلم الذي انحصر عرضه على مهرجان برلين السينمائي داخل قسم “فوروم”، وبالتالي استحال عليهم تفنيده والتقاط مكامن “شروره” وضربه القيم الاجتماعية.
معلومات لا تكفي
كل ما فعله هؤلاء هو البحث والتنقيب عن بعض المعلومات المتوافرة هنا وهناك. الصحافي والناقد سيد محمود كتب عن الفيلم في موقع “إعلام” معتبراً إياه فيلماً لقيطاً ولم يتوانَ عن تحريض الرقابة عليه “لم يكن (بشتقلك ساعات) أول الأفلام التي صنعت بأيدي مخرجين مصريين وشارك فيها ممثلون مكتوب في بطاقاتهم الشخصية أنهم مصريون، وتعرض في المهرجانات تحت لافتة (صنع في مصر) (…). هناك فجوة بين صناع هذه الأعمال والرقابة، فهم يريدون صناعة سينما بمقاييس مختلفة عما هو سائد من دون المرور على جهات تمنع وتحذف وتجيز”.
“بشتقلك ساعات” هو باكورة الأعمال الروائية الطويلة للمخرج المصري الشاب محمد شوقي حسن المقيم في ألمانيا. عمله هذا الذي يستعير من التراث العربي والتجريب السينمائي فريد في شكله ومضمونه ولا يشبه أي شيء يمكن أن يشاهد في السينما المصرية والعربية الحالية التي تتغلب عليها الأفكار المحافظة أو السيناريوهات المدروسة لإيجاد تمويل غربي، وهذه في نهاية المطاف سينما غير حرة تماماً. فيلم حسن أسقط الكثير من الخطوط الحمر، وقد يبدو عادياً في السينما الغربية، لكن كعمل ينطق باللغة العربية ويسند التمثيل إلى ممثلين عرب، فهذا يعد إنجازاً غير مسبوق.
احتفاء بالجمال
يقع الفيلم في 66 دقيقة ويحمل نفساً تجريبياً من دون أن يكون نصاً تجريبياً بالكامل. يخربط الحكاية بقدر ما يبنيها، في محاولة مستمرة لعدم ترك أي أثر خلفها. يمحو الآثار كمجرم ارتكب جريمته وهرب. طيف شكسبير حاضر بقوة أقله في العنوان الإنجليزي للفيلم “هل عليَّ أن أقارنك بيوم من أيام الصيف؟”، الذي يستعيد عنوان قصيدة للكاتب الإنجليزي. ثم هناك الصيغة التي تروى فيها الحكاية: صيغة شهرزاد التي تحكي بالفصحى قصص حب ورغبة بين رجال لا أحد فيهم بطل الفيلم المطلق. هذا كله يضع الفيلم غريب الأطوار في جو من الألفة، إذ تبتعد الأشياء عنا وتقترب منا بلا توقف. المكان حيث تجري فيه الأحداث غير محدد، وقد يكون في مخيلة الشخصيات لا أكثر. في العموم، هذا فيلم يحتفي بالجمال، من أصغر كادر إلى الألوان فالموسيقى، مع شعور طاغٍ بالبحث عن شيء سامٍ ينبعث من كل لقطة. “كل جمال يطغى عليه جمال يختفي وينهار”، يقول مطلع قصيدة شكسبير، لكن المخرج لا يأخذ به، فما يفعله هو تراكمات جمالية، صوتاً وألواناً وآهات.
على غرار قصيدة شكسبير، يرفع الفيلم من شأن جمال الذكر. فهذا فيلم يعج بالرجال وأجسادهم، وبلقاء هذه الأجساد بعضها بالبعض الآخر (تمثيل أحمد الجندي وسليم مراد ونديم بحسون وحسن ديب) تداخلها، اتصالها في حوار جميل. لا شيء سوقياً في الفيلم، كله مكتوب بإحساس مرهف لبلوغ مناطق حساسة من الطبيعة البشرية، أبعد من الحب وأبعد من الجنس وأبعد من الرغبات والغرائز. هذه من المرات النادرة التي نرى فيها جسد الذكر العربي، والصورة تستحوذ عليه، تعطيه حقه في الحضور، بعيداً من كل محاولة للابتذال والتلصص واستنجاد الانتباه.
إعادة الاعتبار إلى جسد الذكر العربي، هذا هو مشروع الفيلم الأساس. هذا الجسد الذي كان حضوره قبالة الشاشة منقوصاً على الرغم من أن هناك دزينة من الأفلام المصرية عن المثلية، لكن الجسد بقي فيها “تابو”. الفيلم مقسوم إلى فقرات، ينطلق بمقدمة وينتهي بخاتمة، وكل ما نراه بينهما مشبع بالموسيقى والقصائد (وديع سعادة…) والأغاني المنوعة من الريبرتوار الشعبي المستعاد على لسان الشخصيات، بالإضافة إلى المقابلات والحوارات، وهذا كله يمنح إحساساً خاطئاً بأننا شاهدنا عمل تجهيز أو فن معاصر.
جو عفوي
الفكرة بسيطة والفيلم يلتف حولها ويدور، في جولات متتالية، سعياً لاستخراج المسكوت عنه. والجيد أن الشخصيات تستسلم لهذا من دون ترجٍّ، وهذا أحد الأشياء الجميلة في الفيلم، إذ إن كل شيء يحدث بعفوية معينة، كأنه يتسرب من بين الأصابع. لا شيء يتطلب استخدام قوة، ومن هنا تحديداً يستمد الفيلم هويته وفرادته، لا زيفاً وافتعالاً كما في الكثير من الأعمال.
الفيلم عن لقاء غرامي يحدث بين شاب مصري وآخر. يحصل اللقاء في ناد ليلي. يحدث على الفور انجذاب بينهما . ثم تحل مرحلة الكلام. والكلام يمكن اعتباره فعلاً آخر. هكذا سنعلم أي حياة عاشها هذان قبل هذه الليلة الحمراء. وسنعلم أن أحدهما، على خلاف الآخر، صاحب تجربة في تعدد العشاق، في حين أن الآخر يتقدم متحسساً، يزحف بدلاً من المشي. لهذه القصص عند المخرج صور مستعارة ذات منابع كثيرة. كل شيء يستثمره في سبيل الفيلم. على العالم كله أن يكون مصدر وحي له. وبما أننا في حكاية ذات خلفية عربية ومضمون عربي، فكلام كثير سيقال، في العلاقات والحب والانفصال والألم. هذا كله سيأتي على دفعات، على مزاج المخرج ومونتيرته. البنية الدرامية لا تتماهى مع مستلزمات السينما التقليدية، بل لها منطقها الخاص: الكثير من التكرار لكشف وجهات النظر المختلفة.
قد لا نفهم كل شيء مما نشاهده، وقد نحتاج إلى مشاهدة ثانية (يستحقها الفيلم على الأرجح) للتوغل في التفاصيل كافة. وهذا ليس ضعفاً يضر بالعمل الذي يعطينا الانطباع بأننا في ورشة أو في استوديو تصوير أو أمام “مايكينغ أوف” استعداداً للحظة دوران الكاميرا. نحن في الحقيقة إزاء عمل مفتوح لا ينتهي بالخاتمة، بل ليس سوى البداية. بداية فجر جديد للسينما العربية تضع الجسد والرغبات المحرمة والمنبوذة في قلب اهتماماتها وذلك برؤية فنية تستحق التحية.