في تجربة استثنائية غير مسبوقة للتكامل بين عقل الإنسان والذكاء الاصطناعي، تمكن فريق في معمل الفنون والذكاء الاصطناعي في جامعة روتجرز الأميركية من استكمال السيمفونية العاشرة لبيتهوفن بحركتين موسيقيتين تمثلان حوالى 30 دقيقة في واحدة من التجارب الفريدة التي يتم الدمج فيها بين إبداع العقل البشري والتكنولوجيا.
ألف بيتهوفن تسع سيمفونيات، ولكن القدر لم يمهله لاستكمال العاشرة التي دوّن بعض جملها الموسيقية في مخطوطات متفرقة تم الاعتماد عليها لاستكمال رائعته العاشرة. والسيمفونية الكاملة التي خرجت بتوقيع بيتهوفن والذكاء الاصطناعي معاً، عزفتها أوركسترا بيتهوفن السيمفونية في مدينة بون، التي شهدت مولد الموسيقي الشهير قبل قرنين ونصف من الزمان احتفالاً بذكرى ميلاده الـ250.
الأكاديمي المتخصص أحمد الجمال، قائد الفريق الذي قام بالمهمة، مصري درس علوم الحاسب في كلية الهندسة جامعة الإسكندرية، واهتم بالذكاء الاصطناعي من حينها ليحصل على الدكتوراه في هذا التخصص ويلتحق بجامعة راتجرز في ولاية نيوجرسي كأستاذ، وخلال العشرين عاماً الماضية كأكاديمي نشر أكثر من 200 بحث علمي، وحصل على عديد من براءات الاختراع في هذا المجال. ومنذ 10 سنوات أسس معمل الفنون والذكاء الاصطناعي في جامعة روتجرز، وكان المعمل الأول من نوعه والأسبق الذي يتخصص في الأبحاث، في هذا التقاطع غير المعهود بين الفنون والإبداع من جانب وذكاء الآلة من جانب آخر.
وعن المعمل الذي يعد الأول من نوعه في العالم وفكرته وأهدافه والمشروعات التي يهدف لتحقيقها يقول الجمال لـ”اندبندنت عربية”، “أؤمن بأنه لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحاكي نظيره الإنساني من دون أن يتمكن من الإبداع، لأنه السمة المميزة للذكاء الإنساني عن كافة الكائنات التي من الممكن أن تتصف به. والمعمل مخصص للتعاون في مشاريع بحثية مع فنانين ومتخصصين في تاريخ الفنون من أجل دفع إمكانات الذكاء الاصطناعي في مجالات الإبداع بما يعود بالفائدة أيضاً على فهم طبيعة الإبداع الإنساني، وتقديم أدوات ذكية من الممكن أن تفيد العملية الإبداعية”.
فكرة استكمال السيمفونية العاشرة لبيتهوفن
استكمال سيمفونية لموسيقي عظيم بمكانة بيتهوفن رحل عن العالم منذ ما يقرب من قرنين من الزمان بلا شك تجربة مثيرة، وفكرة غير مسبوقة فكيف جاءت بداية الفكرة، وما تخصصات الفريق الذي قام بالمهمة؟ وهل تضمّن موسيقيين إضافة إلى المتخصصين في الجانب التقني؟
يقول الجمال، “المشروع بدأ عام 2019 بهدف إكمال السيمفونية العاشرة لبيتهوفن احتفالاً بذكرى ميلاده الـ250، فأردنا أن نقوم بعمل مميز يوضح للعالم عبقرية بيتهوفن بطريقة جديدة، وضم الفريق خبراء موسيقيين، على رأسهم الملحن النمساوي والتر وارزوا، وأستاذ الموسيقى النمساوي ماتييسرودر، وأستاذ الموسيقى الكلاسيكية بجامعة هارفارد الأميركية دافيد لافيين، وموسيقيون آخرون من النمسا وألمانيا وإنجلترا”. يضيف، “دوري كان تكوين وقيادة فريق الذكاء الاصطناعي الذي كان عليه العمل مع الخبراء الموسيقيين لتطويع هذه التكنولوجيا الحديثة لهذا الغرض غير المسبوق”.
كيف يعمل الذكاء الاصطناعي؟
كيف يمكن تبسيط الفكرة بشكل عام لغير المتخصصين، وكيف قامت الأجهزة باستكمال المقطوعة والتوزيع الموسيقي، وتحديد الآلات المناسبة. يوضح الجمال “ليستطيع الذكاء الاصطناعي أن يستكمل عملاً موسيقياً بأسلوب بيتهوفن يجب عليه أن يُغذى بكثير من الأعمال الموسيقية لبيتهوفن ومن سبقوه، وكيف يقوم الملحن بتطوير فكرة موسيقية إلى جملة ثم إلى عمل متكامل؟، فكان علينا أن نغذي الذكاء الاصطناعي بآلاف النوت الموسيقية، ليدرك أولاً مبادئ التأليف الموسيقي السيمفوني، ثم نلقنه بعد ذلك أسلوب بيتهوفن تحديداً في التأليف والتوزيع الأوركسترالي، كل هذا أيضاً عن طريق التعلم من الأمثلة العديدة من أعماله”.
يضيف، “في النهاية فإن الذكاء الاصطناعي يتعلم عن طريق التعرف على الأنماط (patterns) في الموسيقى، وكيف يمكن التنبؤ بالنوتة المقبلة بعد الاطلاع على النوت السابقة في كل جملة، وبعد أن يتقن عملية التنبؤ بالأعمال التي تعلم منها يمكنه أن يستعمل لإكمال عمل جديد بالأسلوب نفسه، لأن الموسيقى تركيب رياضي له قواعد فيستطيع الذكاء الاصطناعي تتبع هذه القواعد والأنماط والتنبؤ بها، العملية مشابهة إلى حد ما لعملية التنبؤ بالكلمة التالية عند كتابة نص أو رسالة لغوية، ولكنها أكثر تعقيداً في حالة الموسيقى”.
الفارق بين العقل البشري والذكاء الاصطناعي
في ظل تصاعد كبير لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي حالياً ومستقبلاً في مجالات متعددة، فما هو الفارق بين العقل البشري والذكاء الاصطناعي في التعامل مع تحليل البيانات أو التعامل مع المعلومات؟
يقول، “الذكاء الاصطناعي يستطيع تحليل كميات هائلة من البيانات مما يتيح له اكتشاف أنماط من الصعب على الإنسان اكتشافها، فالعقل البشري من الصعب عليه تحليل البيانات بمثل هذه الكميات، ولكن يتميز عن الذكاء الاصطناعي بقدرته على ربط البيانات بسياقات تاريخية واجتماعية، فالذكاء الاصطناعي ينظر للموسيقى مثلاً في صورة رياضية ومنطقية، ولكن لا يستطيع فهم ما كان يجري في تاريخ أوروبا في القرن الثامن عشر مثلاً، مما أثر في فن بيتهوفن وإبداع لهذه المقطوعات الموسيقية”.
استقبال الجمهور
الموسيقى في الأساس عمل نابع من الشعور وناتج من إحساس ومشاعر مؤلفها، فكيف يمكن لأجهزة لا مشاعر لها أن تقوم بالأمر ذاته؟ وكيف استقبل الجمهور العام والنقاد الموسيقيون السيمفونية حينما تم عزفها؟ وهل استطاعوا التفريق بين الجزء القديم والمؤلف بالذكاء الاصطناعي؟
يقول الجمال، “صحيح أن الذكاء الاصطناعي ليس له مشاعر إنسانية بينما هي أساسية في عملية الإبداع الفني، لكن بمجرد أن يتحول العمل لشيء مادي محسوس فإن تأثيره في المتلقي يصبح عملية أخرى تماماً تتحكم فيها مشاعر المتلقي، بالتالي فإن الذكاء الاصطناعي يعمل على تحليل العمل الفني المحسوس، في صورة النوت الموسيقية في حالة الموسيقى كمثال، عن طريق التحليل الرياضي والإحصائي والنمطي لهذه النوت بما تحمله من مشاعر الفنان نفسه”.
يضيف، “هناك كثيرون ممن استمتعوا بالعمل جداً، ورأوا فيه روح وأسلوب بيتهوفن يُبعث من جديد، ووصف لي البعض مشاعرهم أثناء استماعهم للعمل وكيف أنه أثار دموعهم وحرك مشاعرهم، وعلى النقيض هناك من يرفض المشروع بالأساس، بالتالي سيرفض أي نتيجة أياً كانت، ولكن أشد المنتقدين اعترفوا بأن السيمفونية بالفعل تحمل بصمة بيتهوفن، وكان نقضهم نابعاً من توقعهم لشيء يفوق ما توصل إليه بيتهوفن في السيمفونية التاسعة، وكان في رأيهم أن العمل مماثل أكثر لأسلوب بيتهوفن السابق للسيمفونية التاسعة وهو نقد أتفهمه”.
مستقبل إبداع الذكاء الاصطناعي
التفاعل بين الإنسان والآلة ماذا يمكن أن ينتج عنه مستقبلاً في مجالات الفنون بشكل عام مثل الفن التشكيلي أو الأدب، وهل يمكن استكمال لوحة أو عمل أدبي من خلال اسكتشات أو مسودات تركها الفنان بنفس التقنية، يقول، “أعتقد أن أهمية هذه التجربة، والهدف منها في الأساس هو توضيح ما يمكن أن يقوم به الذكاء الاصطناعي في مجال الإبداع، وكيف أن ذلك سيكون في المستقبل شيئاً مكملاً وأساساً للإنسان المبدع، سواء كان في الموسيقى أو الفنون التشكيلية أو حتى الكتابة الأدبية، فالذكاء الاصطناعي بمقدوره أن يفتح آفاقاً إبداعية جديدة للإنسان المبدع، لأنه غير مقيد بكثير من القيود التي يتأثر بها الإنسان في إبداعه”.
الإبداع البشري في مواجهة إبداع الآلات
عرض في مصر في إحدى الفعاليات الفنية أًخيراً روبوت قيل إنه الأول من نوعه الذي يستطيع الرسم، فكيف تختلف هذه التقنية عن استخدام برامج معينة في مجال الفنون مثل التجربة الماثلة أمامنا؟ وكيف سيكون تأثير هذا في الفنون مستقبلاً بشكل عام، وهل يمكن أن يقل الإنسان في إبداعه لأنه سيعتمد على الآلة والتكنولوجيا؟ يوضح الجمال، “الفن والإبداع مكانه العقل في الأساس والعملية الآلية لوضع العمل الفني في صورة مادية ليست هي الإبداع، في مشروع سابق عام 2017 قمنا بتطوير برنامج ذكاء اصطناعي (AICAN) تعلم من تاريخ الفن التشكيلي الأوروبي على مدى الـ 500 عام الماضية، واستطاع أن يبدع أعمالاً جديدة غير مقلدة لما حدث في الماضي، ولا يستطيع المشاهد التمييز بينها وبين ما ينتجه فنانون معاصرون يعرضون في أفضل المعارض العالمية، هذا (الفنان الاصطناعي) لم يكن روبوتاً يرسم، ولكن كان مبدعاً بلا شك، ولوحات هذا الفنان الاصطناعي عرضت في معارض حول العالم في نيويورك ولوس أنجليس وميامي وفرانكفورت، وعرضت حتى في المتحف الوطني الصيني، أكبر وأعرق متاحف الصين، وكتبت عنه الصحافة العالمية، فالفنان الاصطناعي قادم، ولكنه لا يتعارض أبداً مع إبداع الإنسان”.