حتى ولو كثر الكتّاب ذوو الأصول العربية من الذين ارتحلوا إلى فرنسا معيشة ولغة أيضاً منذ أواسط القرن العشرين على الأقل، سيبقى المصري من أصول لبنانية جورج شحادة، أشهرهم على الإطلاق، وليس فقط لأنه سبقهم جميعاً إلى هذا البلد الذي لم يكفّ عن احتضانهم، بل لأن الاستقبال الذي خصّه به الكتّاب الكبار في هذا البلد كان ويبقى استثنائياً، إذ غلب عليه طابع الاحتضان المطلق، ما لاءم شحادة وجعله يعتبر نفسه واحداً منهم. فهو إذا كان، وكما سيفعل من بعده كبار من أمثال الطاهر بن جلون وآسيا جبار ورشيد بوجدرة، وصولاً إلى ألبير قصري وفينوس خوري وأمين معلوف لتكرّ السبحة بعد ذلك، إذا كان قد تحوّل إلى واحد من أولئك “الوافدين” الذين أثروا حتى في اللغة الفرنسية نفسها. فإنه حين وصل حاملاً متاعه الفكري واللغوي والشاعري، لم يُعتبر أجنبياً يحاول الاندماج في بيئة غير بيئته، بل استقبل على الفور ككاتب وشاعر بالفرنسية حتى إن كان البعض قد ربطه، “رغماً عنه” على أية حال، بتلك الجذور التي انبثق منها. ومن هنا، كان منطقياً أن يُختصر الموقف منه في العبارة التالية: “كنت معجباً بنتاجه قبل أن أصبح صديقاً له. وكان مسرحه قد فتح أمامي أكثر من باب من أبواب شعره. ولا شك بالنسبة إلي في أن مسرحيته ’حكاية فاسكو‘ هي أكثر مسرحياته نجاحاً. آه، ما أسعد جورج شحادة الذي يجمع بين مواهب أفضل القصاصين العرب، ومواهب الشاعر الفرنسي الأكثر أصالة”.
كتابة قليلة ومكثفة
فبهذه اللغة، قليلة ومكثفة الكلمات، تحدث عنه ذات يوم في حماسة، الأديب الفرنسي جول سوبرفيال. والحال أن هذا الكشف الباهر والموجز والصائب أيضاً عن ذلك البعد الحكواتي العربي في أدب جورج شحادة، لم يركز عليه كثر خلال أعوام طويلة وصلت خلالها شهرة جورج شحادة إلى الذروة. وهو نفسه كان شديد الدهشة لذلك. وراح يردده بفرح في آخر أيامه حين راحت تنهال عليه تكريمات عربية. فيستجيب معبراً عن سرور بها ما كان متوقعاً منه طوال مساره. وكان جورج شحادة شديد الاقتصاد في كلامه. وفي كتابته تحديداً، فهو لم ينجز سوى نصف دزينة من المسرحيات خلال عمره الطويل (1910-1988)، ولم يكتب سوى القليل من الأشعار في بداياته السريالية.
وتقول سيرة جورج شحادة المتداولة – التي لم يحاول هو أن يؤكدها أو ينفيها على الإطلاق – إنه وُلد عام 1907 (ويقال عام 1910) في مدينة الإسكندرية لأبوين لبنانيّي الأصل (ويقال إن أباه كان دمشقياً لأسرة مقيمة في بيروت). وبعد أن تلقّى شحادة دراسته الابتدائية في الثغر المصري – ما جعله طوال حياته ينطق العربية بلهجة مصرية – ذهب إلى بيروت حيث استكمل هناك دراسته الجامعية في كلية الحقوق التابعة لجامعة الآباء اليسوعيين.
فوق الكلمات وبعدها
وهو في بدايته عمل فعلاً في مكتب للمحاماة في العاصمة اللبنانية، غير أنه في الوقت ذاته انصرف إلى كتابة الشعر، رمزياً ورومنطيقياً أول الأمر، ولكن في توجه سريالي بعد ذلك، إذ راحت تصله من خلال المطبوعات الأدبية الفرنسية، أصداء الثورة السريالية التي كانت قد بدأت تندلع في فرنسا. ولكن يبدو أن شحادة بعد أن جرّب حظه في الشعر بعض الوقت، وكان اعتاد إرسال قصائده لتُنشر في المجلات الفرنسية، عاد ووجد ذاته في المسرح، إذ رآه قادراً على الشعر والسمو به إلى “ما فوق الكلمات وما بعد الكلمات”. وعلى أي حال، تحدث هو بنفسه مرات عدة عن تلك النقلة من الشعر إلى المسرح، فقال ذات مرة: “انتقلت من الشعر إلى المسرح لأنني أدركت ذات يوم أنني وصلت في الشعر إلى درب مسدودة ضيقة لم أعُد أعرف كيف النفاد منها. درب عنوانها ذبول الكلمات التي فقدت بين يدي نضارتها من وفرة الاستعمال. وعلى كل حال لا يزيد عدد هذه الكلمات في نصوصي عما يتراوح بين 200 و300 كلمة، وهي تعود دائماً وإن بمضامين مختلفة. وهكذا شعرت بالاختناق. وكان إنقاذي من طريق المسرح. المسرح هو الذي أعاد اليّ توازني في هذا العالم الذي هو عالمي. وهكذا رحت أكتب مسرحية بعد أخرى…”.
هكذا تكلم زعيم السرياليين
“لو أنني سُئلت ما هو سرّ جورج شحادة، لأجبت بلغة الصيد القديمة إنه ما من أحد عرف مثله كيف يغري بالطعم. إن فن التدجين (تدجين الجوارح من الطير) هو الفن الذي لا يجد جورج شحادة منافساً له فيه. تلزمه لذلك، من دون شك رهافة ارتباطاته بالشرق الذي انطلقت منه في أزمنة سحيقة، أشرف أساليب الصيد. بالنسبة إليّ، تمتزج ’القنزعة‘ المنتصبة على رأس العصفور المحروم من قوة البصر، والتي تمكّنه بالتالي من إجادة النظر، تمتزج بذلك ’الانبجاس النحوي‘ الذي طالما لفت الانتباه إليه جورج شحادة في مسرحيته ’سهرة الأمثال‘(…) حيث تقوم المسألة على انعتاق الكلمات التي باتت منذ ترابطت في ما بينها، تتوق إلى مزيد من الوعي، إلى الحياة الحرة السعيدة التي تحياها الأسود والعصافير… وها هو (شحادة) يعتقها على مضض من الجميع محرّراً إياها من عبوديتها. وهو يعرف في الوقت نفسه أنه يجعلنا نرى بعين أورفيوس، الأسود والعصافير كما لم نرها من قبل…”.
اللغة وطناً وحيداً
بهذه الكلمات، تحدث ذات يوم زعيم السرياليين الفرنسيين أندريه بريتون عن شحادة كواحد من أكثر كتّاب اللغة الفرنسية شاعرية وخصوصية وغموضاً. ولئن كنّا نشير إلى جورج شحادة، المعنيّ بهذا الكلام هنا، بصفته “أحد كتّاب” الفرنسية، لا بصفته “كاتباً فرنسياً” كما يصفه كثر أحياناً، ما هذا إلا لأن شحادة لم يكُن ليعتبر نفسه أبداً فرنسياً خالصاً على الرغم من أنه عاش في فرنسا منذ شبابه الأول وحتى رحيله (أي نحو ثلاثة أرباع القرن)، لكنه كذلك لم يكُن يعتبر نفسه مصرياً خالصاً على الرغم من أنه وُلد في مصر، ولا لبنانياً خالصاً، على الرغم من الجذور اللبنانية لأهله. اللغة كانت هي وطن جورج شحادة واللغة كانت مجال تعبيره ومصدر قوته وشاعريته… حتى إن كان عُرف دائماً باقتصاده فيها، هو الذي لم يكتب خلال حياته الطويلة سوى قليل من النصوص. وكان أشهر نصوصه نصف دزينة تقريباً من مسرحيات، حلّ فيها التكثيف الشاعري محل الفصاحة.
حنين إلى البعيد
كان شحادة كما قلنا، مُقلّاً في إنتاجه لكن الثناء عليه وعلى أعماله القليلة كان عاماً. ومن هنا، نجد كثيراً من النصوص التي تحدثت عنه وعن أعماله موقّعة من كبار الكبار في الثقافة الفرنسية وغيرها، من سان جون بيرس إلى بريتون ومن رينيه شار إلى المكسيكي أوكتافيو باث… ونجد كذلك، إذا ما استعرضنا مساره الكتابي، أن كل صدور لعمل من أعماله كان يُعتبر حدثاً. وينطبق هذا القول بخاصة على مسرحياته التي كان كبار المسرحيين الفرنسيين، لا سيما جان لوي بارو، يتلقفونها بسرعة ما إن ينجزها، ليقدّموها لجمهورهم أعمالاً شديدة الخصوصية، بالكاد تحاول الانتماء إلى مدرسة أو تيّار حتى في الخمسينيات والستينيات حين راحت تروج تيّارات العبث واللامعقول ومسرح القسوة والمسرح الشاعري وكل أنواع الواقعيات، ليصبح الإنتاج ضمن إطارها شرطاً للوصول إلى الجمهور. جورج شحادة لم يلتزم أبداً ذلك الشرط، بل ظلّ يكتب نسيجاً وحده، غير آبه بأي رواج أو أي التزام ما عدا التزامه بالشعر والإنسان والحنين الدائم إلى البعيد، مع سخرية – مبطنة حيناً ظاهرة أحياناً – من الشرط الإنساني والتوقف عند عبثية هذا الشرط والطابع العابر لكل ما نحاول أن نفرضه على أنفسنا أو – وهذا أسوأ – على الآخرين.
ترى، حين نقول هذا، أفلا نبدو كما لو أننا نتحدث عن كل واحدة من مسرحيات شحادة: “السيد بوبل” أو “سهرة الأمثال” أو “حكاية فاسكو” أو “البنفسجات” أو “السفر”، ثم بخاصة مسرحيته الأخيرة – في الترتيب الزمني – والأشهر لكونها الأكثر بساطة و”حدثيّة” بين أعماله: “مهاجر بريسبان”؟