مع استمرار الأزمة الاقتصادية والمالية غير المسبوقة التي تعصف بلبنان، يبدو أن المواطن على مشارف كارثة صحية بعدما بات عاجزاً عن دفع تكلفة الطبابة وفاتورة الاستشفاء التي بلغت أرقاماً خيالية.
ثمة تخوّف اليوم من أن تصبح الرعاية الصحية في البلاد حكراً على الأغنياء فقط، في ظل تحديات عدة لم تتمكّن الدولة بعد من مواجهتها ومن إيجاد الحلول لها. وإذا كان المواطن يعتمد على الجهات الضامنة لتوفير الدعم له لتغطية فاتورة الإستشفاء، لا يبدو هذا الحل الذي يمكن أن يعوّل عليه في المرحلة الحالية.
تغطية بعيدة من الواقع
يعتبر الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الجهة الحكومية الضامنة الكبرى، فيغطي تكلفة الاستشفاء لما لا يقل عن نسبة 35 في المئة من المواطنين اللبنانيين، فيما تغطي وزارة الصحة العامة وتعاونية موظفي الدولة وطبابة الجيش وقوى الأمن مجتمعة تكلفة الاستشفاء لنسبة 45 في المئة من المواطنين تقريباً.
التحدي الأكبر اليوم مع الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي في أن التغطية هي على أساس سعر الصرف الرسمي للدولار، ما يخلق هوّة كبيرة مع فواتير المستشفيات التي تسعّر حكماً على أساس سعر الصرف في السوق الموازية. بالتالي لم يعُد ممكناً للمواطن اللبناني أن يعتمد على تغطية الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي في المرحلة الحالية، لأن مساهمته هذه تخفف من أعباء فاتورة الاستشفاء بنسبة لا تُذكر.
توضح كارمن صقر أن والدها أُدخل إلى المستشفى بسبب فقر دم حاد كان يعانيه، وهو يستفيد من تغطية الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي طوال حياته بشكل أمثل ومن دون مشكلات.
لكن الأمور تبدّلت بالكامل في المرحلة الحالية. فتبيّن أنه مصاب بسرطان في الأمعاء ويحتاج إلى جراحة مستعجلة، وبلغت فاتورة المستشفى لفارق تغطية الصندوق 81 ألف دولار، علماً أن إدارة المستشفى طلبت قبل العملية مبلغ 34 ألف دولار ومن ثم طالبت بعدها بالمبلغ المتبقي.
تشير صقر إلى أن العائلة تسلّمت فاتورة لدى تسديد هذا المبلغ، إلا أنها لم تحصل على إيصال بالمبلغ المدفوع. وكانت المستلزمات المذكورة في الفاتورة على أساس تسعيرة سعر صرف الدولار الرسمي.
استطاعت عائلة صقر تأمين هذا المبلغ لإجراء الجراحة، إنما يعاني عشرات المواطنين يومياً في سبيل تأمين مبالغ مماثلة لقاء الدخول إلى المستشفى وتلقّي العلاج أو الخضوع لعملية ولو كانت مستعجلة. كثيرون منهم يعانون بصمت ويتغاضون عن أوجاعهم ويهملون حالتهم الصحية خشية التوجه إلى المستشفى والاضطرار إلى تحمّل التكاليف المرعبة لفاتورة الاستشفاء، ما يجعل الأمن الصحي في خطر شديد ويهدد بأيام أسوأ بعد، إذا ما استمر الوضع على حاله.
وتشهد المستشفيات حالياً زيادة في الحالات المتقدمة بسبب الإهمال الناتج من ارتفاع فاتورة الاستشفاء وأسعار الأدوية وتكاليف الفحوص الطبية إلى حد بات المواطن عاجزاً عن تحمّله، علماً أن هذا المشهد الكارثي لا يقتصر على المستشفيات الخاصة، بل إن الوضع الخطير هذا انتقل إلى الحكومية منها حيث تأتي الفاتورة بالملايين للمواطن الذي يقصدها كونه يعجز أصلاً عن تحمّل تكاليف فاتورة الاستشفاء في المستشفيات الخاصة.
تغطية شركات التأمين للمقتدرين فقط
تعتمد نسبة 20 في المئة من المواطنين اليوم على شركات التأمين لتغطية تكاليف الاستشفاء. إنما إذا كانت شركات التأمين حلاً مثالياً يضمن التغطية الكاملة أو شبه التامة لهذه التكاليف، فالأمور اختلفت أيضاً من أشهر عدة.
فكما بدت معاناة المواطن مع الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وبقية الجهات الضامنة، كذلك بدا المشهد مماثلاً بالنسبة إلى شركات التأمين بما أن الارتفاع السريع والهائل في سعر صرف الدولار يُعتبر أساس الأزمة.
توضح وردية لازار أن بالها كان مطمئناً لأنها تستفيد من تغطية الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وأيضاً من التأمين لفارق تغطية الصندوق.
لكن صدمتها كانت كبيرة عندما دخلت إلى المستشفى لدى تشخيص إصابتها بسرطان الثدي وخضوعها لجراحة، إذ وجدت أن الجهات الضامنة لم تتعرف على شيء من التكاليف.
تقول “كنت قد حصلت على موافقة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وعلى موافقة مسبقة من شركة التأمين. لكن كانت المفاجأة بأن فاتورة المستشفى أتت بمبلغ 13000 دولار، كان عليّ تسديدها. وأضيفت إليها تكلفة جهاز القسطرة المركزية لتلقّي العلاج التي بلغت 7000 دولار، مع الإشارة إلى أن المستشفى لم يزوّدني بفاتورة واضحة بالتكاليف المتوجبة، بل حصلت على ورقة بالمبلغ الإجمالي”.
لمتابعة جلسات العلاج الكيماوي، قررت لازار الانتقال إلى مستشفى آخر علّ العبء يكون أخف عليها، إلا أن معاناتها مستمرة اليوم، إذ تسدد مبلغ 1500 دولار لقاء كل جلسة علاج على الرغم من أنها تستفيد من تغطية التأمين والضمان.
من يتحمّل المسؤولية؟
وفق ما يؤكده المدير الطبي للمركز الطبي للجامعة اللبنانية الأميركية الدكتور جورج غانم، لا يمكن تحميل المستشفيات مسؤولية ما يحصل، فالمشكلة الأساسية في الارتفاع الهائل في سعر الصرف بما يتخطى 10 أضعاف. فإذا كانت فاتورة المريض في المستشفى تصل إلى 700 أو 1000 دولار في السابق، من الطبيعي أن تراوح الآن بين 7000 و10000 دولار.
ويوضح “لا ننكر أن الوضع كارثي على المواطنين، خصوصاً أن الهيئات الضامنة الحكومية كالصندوق الوطني للضمان الإجتماعي تعتمد تسعيرة على أساس سعر الصرف الرسمي، ما يبدو بعيداً كل البعد من الواقع الحالي ومن التكاليف التي تتحملها المستشفيات حالياً من مستلزمات طبية ونفقات وأجور عاملين فيها وأطباء وممرضين. خفضت المستشفيات من أرباحها بمعدل الثلث أو حتى النصف بالمقارنة مع عام 2019، إنما تبقى التكاليف عالية على المواطن. في الوقت ذاته، لا يمكن لمستشفى الاستمرار مع الخسارة. لا بد من الحفاظ على حد أدنى للاستمرار، حرصاً على القطاعين الاستشفائي والطبي في البلاد”.
ثمة مستلزمات طبية تتخطى تكلفتها آلاف الدولارات، كما بالنسبة إلى الصمامات الخاصة بالقلب، وهذا ما يمكن أن يشكل عبئاً كبيراً على المواطن إذا ما احتاج إليها في المستشفيات، خصوصاً مع عدم توافر الدعم من قبل الجهات الضامنة.
لذلك يدعو الدكتور غانم إلى ضرورة تحمّل القطاع العام مسؤولياته ومواكبة التضخم الحاصل في البلاد، مشدداً على أنه لا يمكن إلقاء اللوم على المستشفيات بوجود كل هذه التبعات الكارثية للوضع الحالي. أما بالنسبة إلى شركات التأمين، فحتى إذا كانت تغطيتها تتم على أساس سعر الدولار المصرفي، لا تلائم الواقع الحالي بما أن سعر السوق هو بمعدل 4 مرات أكثر. وفي المرحلة المقبلة من المتوقع أن تتحوّل كل فواتير المستشفيات على أساس تسعيرة الدولار في السوق لضرورة تصحيح مسار الأمور ومعالجة حال الضياع السائدة.
وفي كل الحالات، يشدد الدكتور غانم على أن حرمان المواطن من فاتورة المستشفى عند تسديدها لا يجوز، فهي حق له وعلى كل مستشفى التزام ذلك مهما كانت الظروف.
أما الحل الوحيد لتصحيح مسار الأمور، ففي تأسيس صندوق دعم للقطاع الاستشفائي بتمويل من جهات مانحة أجنبية ووكالات ومنظمات دولية، على حد قوله، ليبقى القطاع الاستشفائي صامداً، وفي الوقت ذاته للحد من الأعباء على المواطن اللبناني عند دخوله إلى المستشفى، بما أن الجهات الضامنة لا تبدو اليوم قادرة على دعمه.
من جهته، يوضح رئيس جمعية شركات الضمان في لبنان إيلي نسناس أن تسعيرة شركات التأمين باتت كلّها بالدولار “الفريش”، فيستفيد المواطن من التغطية على هذا الأساس، فيما لم تعُد هناك شركات تأمين تسعّر على أساس سعر الصرف الرسمي ابتداء من شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، ولم يعُد هناك أي اختيار آخر للاستفادة من تغطية شركات التأمين.
ويمكن للمواطن أن يختار بين التغطية الكاملة التي تشمل مختلف المستشفيات، فيسدد ثمن البوليصة على هذا الأساس، والتغطية الجزئية ويمكن أن تشمل مستشفيات معينة وتكون تكلفتها أقل. ومهما كان اختيار المواطن، فهو يعلم مسبقاً نسبة التغطية ويختار على هذا الأساس، ولن يتفاجأ عندما يدخل إلى المستشفى بأن التغطية أتت مخالفة لتوقعاته، كما يشير البعض.
من المفترض أن تصبح المشكلات التي عاناها المواطن في الأشهر السابقة مع شركات التأمين من الماضي، فلا تتكرر. أما في حال وجود خطأ ما، فيفترض أن يبلّغ الشخص الشركة سريعاً حتى تعالج الوضع وحتى لا يضطر إلى الدفع من جيبه الخاص.
ويشير نسناس إلى أن المواطن يمكن أن يسدد سعر البوليصة بالتقسيط، وهو اختيار متوافر في مختلف شركات التأمين إجمالاً. فيما لا ينصح بأن يختار المواطن بعد اليوم التغطية على أساس فرق تغطية الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي تجنباً للمشكلات، إلى حين يعدّل الصندوق في تسعيرته بما يتناسب مع الواقع الحالي.