ألهم الخط العربي العديد من التشكيليين العرب بداية القرن الـ 20، فتعاملوا معه كأحد العناصر الفنية الموحية ذات الطبيعة العربية الخالصة في ما يعرف بالمدرسة الحروفية العربية، وإلى اليوم لا يزال انعكاسه بادياً في أعمال كثير من الفنانين المعاصرين في أنحاء العالم العربي وخارجه، غير أن الأمر لم يخرج من دائرة المعالجة الفنية للأشكال الخطية المتوارثة ومحاولة مزجها بعناصر اللوحة أو العمل الفني، من دون الإفلات من أسر هذه القواعد المدرسية التي تحكم بنيته وأشكاله الموروثة.
قليلون استطاعوا اختراق هذه الهالة التي تحيط بهذا الفن والاقتراب من بنيته، ومن أبرز هؤلاء يأتي الفنان السوري منير الشعراني. وهو تعامل مع الخط العربي كعنصر جمالي لا يحتاج إلى أي مفردة أخرى إلى جواره، فوضعه متفرداً في صدر اللوحة.
تستقي أعمال الشعراني جمالها من حركات الحروف وميلها واتساقها وحنوها وقسوتها ومن التئامها وتنافرها، وكان هدفه أن يعيد صوغ هذه القواعد القديمة لفن الخط العربي ليخرج بنسق آخر لم تألفه العين، فاستطاع أن يضع فن الخط في مكانه الصحيح بين بقية الفنون المعاصرة كعنصر فريد لا يتسم بالجمود ويمتلك مقومات التوليف والتجدد، ولعل جانباً من هذه التجربة الملهمة للفنان السوري منير الشعراوي تعرض حالياً في “غاليري خان” المغربي في القاهرة بعنوان “إيقاعات خطية” حتى الـ 17 من فبراير (شباط).
كان عمره 10 سنوات تقريباً حين ذهب إلى أستاذه بدوي الديراني ليدرس على يديه أصول الخط العربي وقواعده وأشكاله، وكان الديراني حينها يمثل رأس المدرسة الخطية في بلاد الشام ويعلم قواعد الخط لمن يريد من دون مقابل، وهو أمر أشبه بالعادة عند معظم الخطاطين في ذلك الوقت. ظل الشعراني يدرس على يد أستاذه على مدى خمس سنوات كاملة حتى أصبح يمتلك القدرة على الاشتغال بالخط، لكنه ظل ممتنعاً عن توقيع رسوماته الخطية خجلاً من أستاذه، ولم يفعل ذلك مطلقاً إلا بعد وفاته. في ذلك الوقت كانت لديه أفكار كثيرة ترواده عن ابتكار أشياء جديدة غير مألوفة لدى الخطاطين، وهو ما دفعه إلى الالتحاق بمعهد الفنون الجميلة.
بعد أن انتهى من درس الفنون الجميلة ظل الشعراني مخلصاً للخط العربي فلم يتعامل معه كعنصر بين عناصر أخرى في اللوحة كما فعل الـ “حروفيون”، بل وظفه كعنصر أساس ووحيد في أعماله.
استلهم الشعراني عباراته من التراث الشفهي عبر الأزمنة العربية، متتبعاً هذه الروح الخلاقة التي ترتقي بالإنسان وتدفعه إلى الأمام دائماً، وكان كل ما يهمه الكلمة، والعبارة التي تخاطب الضمير وتخاطب الإنسان هي ضالته، فاستلهم كثيراً من أعماله الخطية من كلمات ابن عربي والقرآن والإنجيل وقصائد المتنبي وأبي العلاء المعري وأشعار أحمد شوقي ومن الملاحم الكبرى كملحمة “جلجامش”.
يرى الشعراني أن الخط العربي تم إهماله عبر سنوات طويلة حتى تحول في ذهن الناس إلى حرفة، أما هو فكان يرى الأمر على نحو مختلف، فالخط العربي، كما يقول، لعب دوراً كبيراً في الحضارة الإسلامية ومثّل قاسماً مشتركاً بين فنونها، وهو حاضر في كل جوانب العطاء الفني التي تقدمها متاحف العالم اليوم من فنون عربية وإسلامية.
يذهب الشعراني إلى أن العثمانيين هم أول من سعى إلى حصار الحرف العربي داخل إطار القدسي، فقد خصصت في عهدهم خطوط بعينها للنصوص الدينية مثل “النسخ” و”الثلث”، وكان الخط “الفارسي” لكتابة الأشعار، ولقد وضعوا الخط في قفص من ذهب كما يقول، ناسين أن المقدس هو الكلام وليس شكل الحروف التي تكتب به.
عمل الشعراني خلال تجربته الفنية على دحض هذه المزاعم التي أشاعها العثمانيون عن الخط، وتفنيد الادعاء الذي كان يتبناه بعضهم بأن الخط العربي وصل إلى الذروة، فالخط فن وليس هناك ذرى في الفن كما يقول، بل هناك انتقال وتطور، وهذا ما دفعه مثلاً إلى تصميم عدد من البسملات بخطوط لم يعرفها العثمانيون، فقد أراد الشعراني أن يثبت أن فن الخط ليس فناً متحفياً كما أريد له أن يكون، فهو فن حي وليس ميتاً ولا يختلف عن أي فن من الفنون المعاصرة.