في نهاية الأمر تمكنت الفرنسية ألكسندرا ديفيد – نيل (1868-1969) من أن تعيش 100 عام وعام، على عكس ما كانت تتوقع دوماً. كما تمكنت حين رحيلها عن عالمنا أن تبقى في أقصى حالات وعيها وطرافة حكاياتها ودقة تذكرها لأمور عاشتها خلال تلك الحياة المدهشة التي امتدت في الزمان ولكن كذلك في المكان. ولعل المكان الذي كان ذا حظوة لديها هو الشرق، وتحديداً الشرق الآسيوي البعيد الذي ارتحلت فيه طويلاً وعلى مراحل متعددة، ترويها لنا في أكثر من ستة مجلدات صدرت قبل موتها مجموعة في مجلد واحد، يشغل ما يزيد على ألف صفحة، طُبعت بحروف صغيرة بالكاد كان في إمكانها قراءتها. ولقد حمل الكتاب الضخم عنواناً مباشراً هو “التيبت الكبرى والصين الفسيحة”، ما يدل تماماً على مواضيعه، لكنه بالكاد يصور ما عاشته الكاتبة الرحالة خلال تلك الرحلات، التي امتدت على مدى سنوات حياتها الطويلة. ولعلنا للوصول إلى صورة أكثر إيجازاً إنما أوسع تصويراً لتلك الحياة في مقدورنا أن نعرف ألكسندرا بأنها كانت رحالة وكاتبة ومغامرة ومستكشفة، بل حتى مناضلة نسوية وسياسية إلى جانب الدالاي لاما الذي عرفته في عاصمته لاسا، كما في منافيه المتعددة.
حول الفن الكبير
غير أن ألكسندرا لم تكتفِ بذلك كله، بل تأتي رواية من إبداعها كانت مجهولة وتم العثور عليها بين أوراق بيتها الذي تحول متحفاً في مدينة ديني – لي – بين الفرنسية بعد موتها، ليس ليذكرنا فقط بأنها كانت روائية أيضاً، بل كانت مغنية أوبرا، في شبابها الباكر في الأقل، وهي التي كانت تريد أن تمتهن هذا “الفن الكبير”، وهذا التوصيف ليس من عندنا بل هو، تحديداً، العنوان الذي اختارته الكاتبة لروايتها التي تحاول فيها أن تؤكد أن لا علاقة لها بحياتها لأنها “رواية وليست سيرة ذاتية”. وهذا التأكيد يبدو مقنعاً حتى وإن جعلت الكاتبة للرواية بطلة لها سنها خلال الأحداث التي تدور عند نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وكانت تعمل مغنية أوبرا كما كانت صبية وحلوة. يقيناً أن كل ما في الشخصية يشير إلى أنها أنا/ أخرى لرحالة المستقبل، لكنها ليست بالتأكيد هي نفسها، بل لنقل إنها كانت واحدة من معارفها في خضم تلك المهنة الفنية في ذلك الحين، مكنتها من أن تستلهمها لترسم من خلالها وفي بعد ميلودرامي يكاد يشبه الروايات المشابهة التي كانت أحداثها تدور في فيينا، صورة لزمن ولفن ولممارسات معينة.
تدور أحداث رواية “الفن الكبير” خلال سنوات عديدة عند مفتتح القرن العشرين من خلال بطلتها سيسيل، الحسناء التي تتطلع إلى أن تكون مغنية أوبرالية كبيرة، على الرغم من أصولها المتواضعة والفاقة التي تجعلها عاجزة عن سلوك هذا الفن من طريق تلقيه في المعاهد. ومن هنا وفي هذا النص الذي دبجته الكاتبة على شكل يوميات مليئة بالأسى تدونها سيسيل يوماً بيوم، نرى هذه الفتاة تخوض فنها خوضاً عصامياً، متنقلة من أسوأ الكباريهات إلى أقذر الكازينوهات، تاركة للآخرين أن يستغلوها كلما طاب لهم الهوى. وهؤلاء هم بالطبع أصحاب تلك الملاهي وزبائنهم المرموقون الموسرون، ومن بينهم سياسيون كبار لا يتورعون عن استغلال الفتاة وحاجتها أبشع استغلال. وسيسيل تروي ذلك كله ولكنها ترويه ساخرة من مستغليها بشكل يجعلنا منذ البداية ندرك أن استخدامها تعبير “الفن الكبير” عنواناً لـ”يومياتها” إنما هو استخدام ساخر ويعبق بالمرارة. ومن تسخر منهم سيسيل في يومياتها هم أولئك الرجال وبخاصة السياسيون منهم الذين لا يرتدعون عن إغداق الوعود الكاذبة عليها، واعدين إياها بدور ما أو بمكرمة أو حتى أحياناً بحياة في منتهى السعادة والهناء. لكنهم طبعاً حين ينالون ما يبتغون يتخلون عنها، وهي التي يتبدى لنا على أية حال أنها اعتادت ألا تنتظر منهم شيئاً، بل هي “تقولها” كما تكتبها ألكسندرا بكل وضوح “هؤلاء الرجال ليسوا أكثر من أوغاد شياطين وكاذبين”.
بعض الرجال أم كلهم؟
صحيح هنا أن هذا الوصف لا ينطبق في “الفن الكبير” إلا على ذلك النوع المعين من الرجال الذين تلتقيهم سيسيل خلال تلك السنوات العشر التي تمضيها متجولة مع فنها الغنائي حول العالم معايشة، وتحديداً من خلال فنها الكبير، حثالة القوم وأكذبهم؛ غير أن الذين يعرفون كذلك أن ألكسندرا ديفيد – نيل عرفت في شبابها المبكر كمناضلة نسوية، يمكنهم أن يدركوا بسرعة أنها هي كانت تعني في الرواية حلقات أعرض من الرجال الذين كانت تنازلهم ولا تريد أن تتوقف لحظة عن فضحهم وفضح ممارساتهم. ومن هنا كانت الدهشة كبيرة حين اكتشفت رواية “الفن الكبير” ونشرت، إذ تبين أن الكاتبة لم تستخدمها في معركتها النسوية -بل لنقل بالأحرى معركتها ضد الدور الذي يلعبه الرجال عموماً في المجتمع- سوى بشكل محدود، مع أنها كانت حين كتبتها بالكاد تجاوزت الثلاثين من عمرها ولا تزال في مرحلة سبقت انصرافها إلى ذلك الترحال في اتجاه الشرق، الذي لا شك خفف من غلواء التقسيم الأخلاقي الذي فرضته بين النساء والرجال، فحولت نضالها إلى نضال تحاول من خلاله، وعلى قدر مستطاعها طبعاً، مساندة الشعوب المضطهدة ضد مضطهديها ومحتلي ديارها، وصولاً إلى تبنيها البوذية على الطريقة التيبتية ديناً لها على الضد من الصينيين، الذين أسهمت لاحقاً في فضح ممارساتهم في التيبت التي احتلوها وطردوا زعيمها، فاعتبرتهم ألكسندرا ممارسين ظلمهم عليها هي شخصياً.
الحياة بأي ثمن
بيد أن معركة ألكسندرا كانت حين كتبت “الفن الكبير” لا تزال معركة جنسانية، استعارت من أجل كتابتها تلك الشخصية التي سمتها سيسيل، والتي أقل ما يمكن قوله إنها تشبهها وتحمل قسطاً من آمالها في الفن والحياة. ولكي تجعل الكاتبة لشخصيتها المبتكرة هذه ذلك التأثير في رسالتها الاجتماعية جعلتها أول ما تظهر في النص الذي تدون فيه سيسيل ما يحدث لها، تحت رحمة بائع المواشي في منطقة دوبس الريفية الفرنسية السيد غروشيه، الذي يحتفظ بها سجينة في أملاكه ريثما يقرر كيف سيستفيد من “بساطتها” وحسنها. أما هي فلن تكون على البساطة التي يعتقدها سيدها، حين تستغل إعجاب عمدة القرية بها فتستجيب لعروضه ثم لعروض ابنه من بعده، أملاً في أن يمكنها هذا أو ذاك من الهرب. لكنها وكما سوف يحدث لها كثيراً في السنوات اللاحقة سوف تقع ضحية الغدر الذكوري. بيد أنها حتى لو فكرت لحظات بالانتحار فهي لن تستسلم في نهاية الأمر. ولسوف تكتشف ذات لحظة وهي في عز يأسها أنها إنما تمتلك شيئاً لم تفكر فيه من قبل: حريتها. حريتها إلى جانب حبها لـ”الفن الكبير” أي الغناء الأوبرالي كما كان يسمى حينها. وهكذا تنطلق سالكة دروباً متعرجة لكنها تمكنها في طريقها من اكتشاف الحياة والعالم ولو على حسابها. وبشكل أكثر تحديداً، اكتشاف أن الحرية ستكون من دون معنى إن لم نعرف كيف نستخدمها. فالحرية ليست في نهاية الأمر هدفاً بل هي وسيلة لهدف أسمى هو عيش الحياة، الحياة بأي ثمن كان.
بين الكتب والتجوال والحرية
ولئن كانت الرواية تتركنا عند نقطة معينة من مسار سيسيل فإننا نعرف أن أسئلة هذه الأخيرة كانت في نهاية الأمر الأسئلة نفسها التي راحت ألكسندرا تطرحها على نفسها في تلك الحقبة بالذات. ونعرف أن الكاتبة قد عثرت على الجواب في ذلك الترحال الذي سيتواصل في حياتها حتى حقبة متقدمة جداً من تلك الحياة. وهي لئن كانت قد توقفت، كما يبدو حتى الآن، وفي انتظار ما قد يكتشف لاحقاً من نصوص روائية أو غير روائية مبكرة لها، عن الكتابة الروائية، ستبدل ذلك بتلك الألوف من الصفحات التي دونت فيها وقائع تجوالها الشرقي في كتب حملت عناوين مثل “في بلاد قطاع الطرق المهذبين” أو “رحلة باريسية إلى لاسا” أو “في الغرب الهمجي للصين الفسيحة” أو حتى “التيبت القديمة في مواجهة الصين الجديدة”، وغيرها من نصوص رائعة تقرأ كروايات بديعة وككتب عن الشرق العميق ولكن كذلك عن… الحرية التي كانت وسيلة سيسيل لعيش الحياة في “الفن الكبير”.