منذ صدوره باللغة الفرنسية عام 1704، على يد المستشرق الفرنسي أنطوان غالان، وباللغة الانجليزية عام 1706، على يد وليم ماكنغتن، وبالألمانية عام 1710، على يد تالاندر، لا يزال كتاب “ألف ليلة وليلة” يفعل فعله في الآداب العالمية، وتظهر تردّداته بين حين وآخر، في هذا الأثر الأدبي أو ذاك. ولعل آخر هذه التردّدات ما نراه في رواية “عودي إلى الحياة” للكاتبة والطبيبة النفسية التركية غولسِران بودايجي أوغلو، الصادرة مؤخّراً عن الدار العربية للعلوم في بيروت، بترجمة مهتاب محمد. ذلك أنّ الكتاب والرواية يتقاطعان في نقاط معيّنة ويفترقان في أخرى، ما يعكس الآثار المتمادية للكتاب في مختلف الآداب العالمية.
يتقاطع الكتاب والرواية في وجود حالة مَرَضِيّة مستعصية في كل منهما، هي شهريار في الأوّل وآلا صايري في الثانية، وفي وجود معالِجة لهذه الحالة، هي شهرزاد في الأوّل وغولسِران في الثانية، وفي اعتماد الحكاية وسيلة للعلاج في كلا الكتابين. ويفترقان في عدد الحكايات ونوعها ومكانها وزمانها وشخوصها وطريقة الحكي وتوقيته. وبين التقاطع والافتراق يمكن القول إن الرواية تُشكّل تنويعاً حديثاً على الكتاب، تشبهه في الشكل، وتفارقه في المضمون. فما الذي تقوله؟ وكيف تفعل ذلك؟
ماهية القول
في ماهية القول، تتساءل الروائية/ الراوية في الصفحة الأخيرة من الرواية: “إلى أي مدى يمكن لطبيب نفسي أن يغيّر المصير الذي خطّته الأقدار يا ترى؟” (ص 485). ولعل الرواية بكاملها هي محاولة للإجابة عن هذا التساؤل. وعلى الرغم من مئات الصفحات التي تستهلكها الكاتبة في محاولتها، فإنّه لم يُكتب لها النجاح، وتبقى النهاية مفتوحة على المجهول، ما يعبّر عنه استدراك الكاتبة بالقول: “لكن إن كنت أعرف أمراً واحداً فهو؛ أنّ هذه الحكاية لم تنتهِ هنا” (ص 485). وعليه، يمكن القول إن “عودي إلى الحياة” تتناول حياة شريحة اجتماعية مهمّشة هي شريحة المرضى النفسيين، ومعاناتهم في مجتمع يعتبر المرض النفسي نوعاً من الجنون، ويتم التعاطي معه بنوع من الكتمان والسرية. والرواية مجموعة من جلسات التحليل النفسي لمرضى مختلفي الأمراض، ترصد فيها الكاتبة ظروف عيشهم وأسباب مرضهم وأعراضه وآليات العلاج وأساليب المعالِج واستجابات المرضى المختلفة. وفي هذه الجلسات، تقوم علاقات مختلفة بين طرفين اثنين؛ الطرف الثابت فيها هو الطبيب المعالِج، والطرف المتغيّر هو المريض الخاضع للعلاج. غير أن العلاقة الأكثر تواتراً في الرواية هي تلك التي تقوم بين الطبيبة غولسران أوغلو والمريضة آلا صايري، وهي علاقة محورية تحفّ بها أو تنشأ على هامشها علاقات أخرى، ما يُشكّل موضوع هذه القراءة.
الطبيبة النفسانية
الطرف الأول في العلاقة المحورية هو الطبيبة النفسانية غولسِران أوغلو التي تمنحها الكاتبة اسمها، وتُسند إليها مهمة الروي. وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى التماهي بين الروائية والراوية؛ فكلتاهما تحمل الاسم نفسه، وتُمارسان المهنة نفسها، وتُديران المركز الطبي نفسه، مما يدفعنا إلى الاستنتاج أن الرواية نوع من سيرة مهنية لصاحبتها يتمّ التعبير عنها في إطار روائي تقصُر فيه المسافة بين السِّيَري والروائي إلى حدّ الامّحاء. وبمعزل عن طول المسافة أو قِصَرها، يتمظهر السّيري في مقدّمات الفصول التي تتّخذ فيها الطبيبة الراوية من نفسها موضوعاً للروي، ويتمظهر الروائي في حوارات تجريها مع مرضاها وحكايات تحكيها لهم، في إطار استراتيجية العلاج التي تعتمدها. وتتمخّض عملية الروي، السِّيَري والروائي، عن شخصية نموذجية، تتحمّل المسؤولية، ترفض الفشل، تحرص على التفوّق، تهتم بالآخرين، تحبّ مرضاها، تمتلك القدرة على التحمّل، تتمتّع بالمعرفة والخبرة ودقة الملاحظة وعمق التحليل وصحّة التشخيص وصوابية العلاج، ما يجعلها أقرب إلى المثالية منها إلى الواقعية.
المريضة المستعصية
الطرف الثاني في العلاقة المحورية هو المريضة آلا صايري التي تتوالى عليها مصائب الدهر، منذ الولادة حتى الشباب؛ فتولد دميمة المنظر، وتنشأ في أسرة مفكّكة، تعاني فيها: تسلّط الجدّة، التمييز بينها وبين لِداتها، كره الأم لها، لامبالاة الأب بها، التنمّر اللفظي، التعنيف الجسدي، النبذ، الإقصاء، الوحدة، الجوع، الشعور بالذنب، وغيرها، ما يجعلها تغضب من الجميع، وتحقد على العالم، وتكره نفسها، وترغب في الانتقام.
على أنّ نقطة الضوء الوحيدة في هذا الظلام المطبق عليها هي تفوّقها في الدراسة وإقبالها على القراءة وتدرّبها في مكتب محاماة، في نوع من الهرب من واقعها القاتم، وتصعيدٍ للطاقة السلبية المتفاعلة داخلها. ولعل هذا ما يجعلها تعي حالتها النفسية وتموضعها الاجتماعي، وتعبّر عنهما خلال جلسات العلاج المتتالية بالقول: “ليس لدي عائلة” (ص 82)، “أنا كجثة في قبرها.. وحيدة مثلها..” (ص 87)، “إنّهم يضربونني بعنف” (ص 88)، “لم أسمع الحكايات حين كنت طفلة” (ص 89)، “لا أعرف كيف أكوّن صداقات مع الناس.. فهم لا يحبّونني.. لا يشعرون بوجودي.. بل يضربونني” (ص 89) وغيرها.
هكذا، نكون أمام حالة صحّية مستعصية. تتواطأ عليها الدمامة، والتسلّط، والتمييز، والكره، والتنمّر، والتهميش، والنبذ، والإقصاء، والتعنيف، والتجويع، واليتم، والحرمان، وظلم ذوي القربى. تنتمي إلى درك ما تحت واقعي، ويكون على الطبيبة المثالية أن تفكّك هذا الاستعصاء، وأن تعيدها إلى واقع الحياة، ما تعبّر عنه، بعد سلسلة من الجلسات، بقولها: ” الآن فقط أدرك كم أنت قوية من الداخل، وكم أسأنا كلّنا فهمك. لكن كلّ ما حدث بات جزءاً من الماضي عليك تجاوزه، والمضي قُدُماً.. عليك العودة إلى الحياة يا آلا” (ص 417). ومن هنا يأتي عنوان الرواية.
مجريات العلاقة
تخضع العلاقة المحورية في الرواية لكثير من التجاذبات بين طرفيها، طيلة أربعة عشر فصلاً، فهي تبدأ بتوتّر مفتَعل من كلا الطرفين في الجلسة الأولى ولأسباب مختلفة بينهما، وتنتهي بانسجام ووئام وسلام في الجلسة الأخيرة. وبين البداية والنهاية تترجّح بين مدٍّ وجزر، وتشهد تحوّلات كثيرة ولحظات درامية وتَبادُل أدوار بين طرفيها، وتتمخّض عن انتشال المريضة من البئر السحيق وإعادتها إلى الحياة. فالفتاة الدميمة، الغاضبة، الحاقدة، المتوتّرة، الراغبة في تدمير نفسها والآخرين، في بداية الرواية، تأخذ في التغيّر شيئاً فشيئاً بتعاقب الجلسات، وتتحوّل في نهايتها إلى أميرة في سلوكها، وعارضة أزياء بجمالها، و”عروس اسطنبول” في شكلها، العنوان الفرعي للرواية. على أنّ المحافظة على هذه الوضعية المتحوّلة عن وضعيات سابقة مرهونة بنتيجة التجاذب بين قدرها المفروض عليها منذ الصغر وإرادتها في تغييره مدعومةً بالطبيبة المعالجة، ما يجعل نهاية الرواية مفتوحة على شتى الاحتمالات.
خلال المراحل التي تمرّ بها العلاقة بين طرفيها، تتعدّد أدوار كلٍّ منهما؛ فالطرف الأول يقوم بأدوار الطبيب والمحقّق والحكواتي والمربّي والداعم والمحفّز والصديق والأم. والطرف الثاني يقوم بأدوار المريض والضحية والجلاّد والصديق والابنة والمحاور والمحلّل. ومع تعاقب الجلسات، واستخدام الحكاية وسيلة للعلاج، أخذت العقد المستعصية بالتفكّك شيئاً فشيئاً، وراحت المريضة تفاجئ طبيبتها بسَعة ثقافتها ودقّة ملاحظتها وصحّة تحليلها وصواب استنتاجها، وراحت الطبيبة تحلّل نفسها في الوقت الذي تحلّل فيه نفس مريضتها، وإذا الرواية تتحوّل إلى درس في التحليل النفسي حافل بأنواع الأمراض النفسية وأسبابها وأعراضها وآليات علاجها، ما يجعل الفائدة من الاطلاع عليها تضارع المتعة في قراءتها، ويعيد “ألف ليلة وليلة” إلى الحياة وإن بمضمون معاصرة.
كيفية القول
في كيفية القول، تُسند الكاتبة مهمّة الروي إلى راوية واحدة، تتنقّل بين أنماط الكلام المختلفة، من سرد ووصف وحوار وحكي. وتتحرّك بين: الخارج والداخل، المدينة والعيادة، الخاص والعام، الذات والآخر، وسواها من الثنائيات التي يتحرّك بينها مكّوك الروي، دون أن تكون الحركات متساوية بالضرورة؛ وعليه، كثيراً ما تبدأ الفصل بسرد شيء من يومياتها وذكرياتها، وتكمله باستقبال مرضاها، فتقوم باستجوابهم واستدراجهم إلى البوح والاعتراف والتخفيف عن كواهلهم المثقلة، أو تنخرط معهم في حوارات هادفة، أو تحكي لهم الحكايات المختلفة، المختارة بعناية لتحقيق الهدف العلاجي، كما هي الحال مع آلا. وتتكرّر هذه الآلية في الفصول المختلفة، بشكل أو بآخر. وهي فصول تتعالق في خطّية زمنية، تأخذ فيها الأحداث بعضها برقاب بعض، وينتظمها نصٌّ روائي، تتوافر فيه طلاوة اللغة وجمال الصورة وأدبيّة التركيب وفصاحة المفردة، وتجمع أنماطه بين رشاقة السرد ودقّة الوصف وحيوية الحوار. وتأتي الترجمة الناجحة له لتجعله أقرب إلى النص العربي منه إلى النص المعرّب، فكأن الرواية كُتبت بالعربية لا بالتركية. هذه الكيفية تُضاف إلى الماهية أعلاه، وتنخرطان في علاقة جدلية بينهما، تتمخّض عن رواية مفيدة وممتعة، وتستحقّ القراءة بامتياز.