بين أعمال الفنانة أمينة سالم المعروضة في غاليري مصر للفنون في القاهرة يطالعنا هذا الرجل ذو البشرة الداكنة بهيئته المنتمية إلى النصف الأول من القرن الماضي. تثير صورة الرجل علامات استفهام بلا شك، فحركة الجسد لا تتسق مع الهيئة الرصينة المتأنقة لصاحبه. هو يبدو متوتراً ومنتشياً، كما لو كان قد انتزع من داخل حفلة صاخبة ليلقى به بغتة في صحراء من الظلال اللونية، أو كأنه يستعرض لياقته أمام المرآة قبل أن تقتحم خصوصيته. سبق أن عالجت الفنانة أمينة سالم صورة الرجل في أعمال سابقة، غير أن حضوره هذه المرة يبدو مختلفاً؛ مبعث الاختلاف هنا يكمن في طبيعة هذا الحضور الذي يفتقر إلى الرصانة المعتادة التي ميزت معالجاتها السابقة، إذ يبدو الرجل هنا محاصراً في فراغ فضفاض بين الدهشة والطرافة.
إن تفكيك هذه الرصانة التي طالما تمتع بها الرجل من قبل في أعمال أمينة سالم هو الأمر اللافت بالطبع، ولكن بقدر ما تحمل هذه المعالجة البصرية لصورة الرجل من طرافة، فهي تتماشى إلى حد كبير مع معالجاتها للصورة الفوتوغرافية. هذه المعالجات لا تخلو عادة من المباغتة، وتبدو أميل إلى التفكيك وإعادة البناء، مع مقدرة لافتة على المراوحة بين الرصانة والهزل أحياناً. في هذه الأعمال التي تعرض تحت عنوان “مهرجان” يتم انتزاع الشخصيات من أماكنها وفضائها المعتاد، ومن طريق الهدم وإعادة البناء تتشكل مساحة جديدة. وهي مساحة عامرة باللون والتناقضات أحياناً، فنرى النساء المنتشيات بأناقتهن، على سبيل المثال، يتشاركن المساحة نفسها مع عناصر أخرى لحيوانات، وظف بعضها في سياق زخرفي، أو مجسمات نحتية أعيد صوغها لتتحول إلى أسطح للرسم والتلوين.
روح التجريب والحنين
تتميز أعمال الفنانة أمينة سالم بملمحين رئيسيين، يتمثل الأول في مراوحتها بين النزعة الكلاسيكية وروح التجريب والتوليف بين الخامات والعناصر، فهي تضيف وتحذف، وتخدش سطح العمل بعديد من التأثيرات. كما نراها تمزج أيضاً بين عدد من الأساليب والمعالجات المختلفة. فهي ترسم الجسد الأنثوي بمزيد من التأني والحرفية الأكاديمية، لكنها في الوقت نفسه تتعامل مع العناصر المحيطة بكثير من التحرر. وتوظف الكتابات العربية داخل اللوحة، كأنها تغزل بتأنٍّ بالغ قطعة من الدانتيل، فلا تستطيع كمشاهد، الفصل بين هذا المزيج، الذي يصعب تفكيك عناصره مرة أخرى، أو تصور أحدها بمعزل عن غيره.
أما الملمح الآخر الذي يميز أعمال الفنانة، فيتمثل في هذه النزعة من الحنين إلى الماضي. فأجواء الأعمال بما تحتويه من درجات اللون واختيارها العناصر والمفردات وطريقة توزيعها على سطح العمل، تشي بذلك الحنين. وهي تدرك ذلك الأمر وتؤكده في اختياراتها للعناصر، كالإطلالات الكلاسيكية للنساء والرجال، واختيارها خطوط الكتابة المضافة إلى اللوحات… فكلها تشي بذلك الشعور من الحنين الغامر والمسيطر على أجواء الأعمال المعروضة.
تدرك الفنانة كذلك المنحى الأنثوي في أعمالها وتؤكده، فالمرأة في أعمالها تمتلك خصوصية فنية متفردة، وهي تمثل عنصراً جمالياً تقليدياً طالما أثار خيال الفنانين والمبدعين على مر العصور، سواء على مستوى التشريح والنسب، أو على مستوى التفاصيل المرتبطة بها، من ملبس وحلي وأدوات للزينة. وكلها أمور غنية بالتفاصيل، تعطي الفنان مجالاً واسعاً للمعالجة ومساحة أرحب من الصياغة والتوليف. وظفت الفنانة أمينة سالم هذه التفاصيل في تشكيل الإيقاع العام لأعمالها، فألوان الملابس تشكل خلفية مناسبة وإطاراً للجسد والعناصر المرسومة، كما أن الطبيعة اللينة للأقمشة والتعامل الفني معها يعطيها مجالاً أرحب للتوليف والمزج بين الخامات.
هذا من ناحية الشكل، أما من ناحية المضمون فالمرأة تشي بالعديد من الدلالات. فهي قد تمثل رمزاً للغواية، كما يمكن أيضاً أن تكون مرادفاً للعطاء والخير والقوة والخصب والمشاعر الدافئة. بعيداً عن هذه الرمزية الخاصة التي تمثلها المرأة في أعمال الفنانة أمينة سالم فإن تجربتها الفنية تمتلك ملامحها الخاصة التي تميزها عن بقية التجارب التصويرية الأخرى، من حيث الصياغة والبناء اللوني واختيارها عناصرها وتعاملها مع المساحات والظل النور. وكذلك تبنيها فكرة المزج بين الصياغات المختلفة في تكوين اللوحة. كما أن لديها القدرة أيضاً على التعاطي مع كل الأدوات والأساليب المتاحة من دون تردد، فهي تستخدم الفرشاة ومعاجين الألوان، وتمزج بين النحت والتصوير. كما وظفت من قبل أسلوب الكولاج (القص واللصق) بمهارة، لخلق مزيج من التأثيرات بين الألوان وقوام الأسطح المختلفة.