لا ريب في أن المفكر الألماني والتر بنجامين كان يفكر كثيراً في تلك الممارسة الشعبية المدهشة التي كانت تسود عالم الفن في اليابان منذ عقود طويلة من السنين بل حتى من قبل ازدهار عصر الميجي بزمن طويل؛ ونعني بها تحويل مشاهد من الحياة الاجتماعية والتاريخية والفنية بل حتى من مناظر الطبيعة إلى لوحات مطبوعة تعلق على جدران البيوت ناشرة الفن في كل مكان بعيداً من مواضعه المعهودة في الفن الغربي حيث ينتشر في الكاتدرائيات والمتاحف والقصور وفي بيوت كبار القوم. ففي اليابان كان الناشرون يشترون من الفنانين أصول لوحات يطبعون منها عدداً كبيراً من منسوخات تباع بأثمان معقولة. ونعرف أن بنجامين تحدث عن مثل ذلك في واحد من نصوص له سوف يصبح من أشهر ما كتب وهو “الإنتاج الفني في زمن إعادة إنتاجه ميكانيكياً”. صحيح أن المفكر الألماني الذي أسهم في “مدرسة فرانكفورت” قبل منافيه وموته انتحاراً عند الحدود الفرنسية- الإسبانية فيما كان هارباً من النازيين، لم يخض في ثنايا الفن الياباني، لكن تلك الممارسات كانت تشغل فكره وتعطيه مادة للتفكير كان يمكنه أن يطور الاشتغال عليه لو عاش أكثر. بل لنقل إنه كان من شأنه أن يتوقف عند ما تستتبعه تلك الممارسة من تكليف ناشرين يابانيين كبار، بعض الفنانين المعاصرين لهم بالقيام برحلات داخل الأراضي الفسيحة لليابان كي يقوموا برحلات سياحية– فنية يرسمون خلالها بتقنيات خاصة بهم مجموعات من لوحات يطبعونها هم في تلك المنسوخات لتعلق في البيوت كما أشرنا.
نهضة فنية كبيرة
في هذا السياق إذاً يمكن القول، إن عصر الميجي شهد نهضة فنية تتسم بواقعية تصل أحياناً إلى حدود النزعة “الطبيعية” وأحياناً أخرى تمهد لنزعة “الواقعية المفرطة” ودائماً في تلوين نعرف أنه أثار شهية كبار الرسامين الانطباعيين حين بدأ بعض تلك الأعمال يُقتنى ويُعرض في الغرب عند نهايات القرن التاسع عشر. ومن هنا اشتهرت أسماء عدد من كبار الفنانين المنتمين إلى “بلاد الشمس المشرقة” وفي مقدمتهم كونيوشي وهيروشيغي وإيسن. والحقيقة أن جمعنا هذه الأسماء الثلاثة هنا ليس عشوائياً، بل نحن إنما نسير في هذا التصنيف على خطى معرض فائق الأهمية أقيم في باريس قبل عام ونيف من الآن وصدرت لمناسبته عدة كتب وكتالوغات وتواصل بين أكتوبر (تشرين الأول) 2020 ويناير (كانون الثاني) 2021، ما أعاد إلى الساحة الفنية الباريسية وفي الآن معاً ذكريات هذه الممارسة الفنية اليابانية “الديمقراطية” بحسب التوصيف الذي أورده واحد من المعلقين، وموقف والتر بنجامين من جماهيرية الفن. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الأعمال التي عرضت وتنوعت الكتابة عنها تستجيب تماماً إلى تلك المعايير التي تبسَّط المفكر الألماني في الحديث عنها. بل تعتبر نموذجية في سياق النهضة الفنية اليابانية، أو بالنسبة إلى واحدة من سماتها الرئيسة على الأقل.
الناشرون رعاة للفنون
والسمة التي نشير إليها هي تحديداً انتماء معروضات الفنانين الثلاثة إلى فن “التوصية” الذي كان يجعل من الناشرين رعاة الفن وناشريه. من دون أن يفوتنا أن معروضات كل واحد من الفنانين الثلاثة تعبر عن نفس الموضوع وهو رسم مراحل الانتقال بين مدينتي اليابان الرئيستين في ذلك الزمن: طوكيو التي كانت تحمل في ذلك الحين اسم إيدو وكيوتو التي كانت حينها العاصمة التجارية بل حتى الفكرية لليابان. ولعل في إمكاننا أن نحدد عام 1834 كبداية ممنهجة لتلك الممارسة التي كانت تجارية – رأسمالية في منطلقها. وكانت ذلك حين عهدت منشورات “هويدو” إلى الرسام الذي كان في مقدمة المبدعين اليابانيين في ذلك الحين، إيسن، بإنجاز مشروع يتبع خطى زميله ومنافسه هيروشيغي الذي كان قد أنجز لتوه مجموعة حملت عنوان “53 مرحلة على طريق توكايدو” وبدأت تحقق سمعة كبيرة حتى قبل وصول اللوحات المطبوعة إلى السوق. وكان مطلوباً من إيسن إنجاز سلسلة لوحات تصور المناظر الطبيعية ومشاهد الحياة اليومية على تلك الطريق، بيد أن إيسن ما إن تخلى عن المشروع وقد وصل إلى اللوحة الرابعة والعشرين، حتى باعت دار النشر المشروع إلى منشورات منافسة كانت تريد الخوض في السياق نفسه وهي منشورات “إيزييا” التي باتفاقها مع هيروشيغي” نفسه على استكمال المشروع ليحمل هذه المرة عنواناً نهائياً هو “69 محطة على طريق كيزوكايدو” أعطت نقطة الانطلاق الحقيقية للتيار كله خالقة أعمالاً يمكن القول، إنها لا تكف عن الانتشار في كل بيت ياباني منذ ذلك الحين.
طريقان لرحلة واحدة
وكان 1838 العام الذي اكتملت خلاله تلك المجموعة لتتبعها خلال العشرين عاماً التالية مجموعتان أخريان لن تقلا عنها أهمية وجمالاً وشهرة؛ أولاهما تلك التي أنجزها كينويوشي، والثانية المجموعة الحاملة توقيع فنان آخر هو كونيزادا. ولسوف يتلو هؤلاء الفنانون الكبار، إلى جانب نيسن فنانون آخرون راح معظمهم يتخصص في نوع معين من المناظر. فعلى سبيل المثال خفف كونيوشي الاهتمام بالمناظر الطبيعة مركزاً على مشاهد مستقاة من المسرح والأدب بل حتى من الأساطير القديمة. فيما يبقى هيروشيغي الأكثر تنويعاً رغم أن مجموعاته المتعلقة بمشاهد السفر وتحديداً على الطريقين الموصلتين بين طوكيو وكيوتو، الأوفر عدداً والأبدع تلويناً بل حتى الأكثر تعبيراً واقعياً عن مشاهد الطريق. ومن الطبيعي والحال كذلك أن تكون منسوخات لوحات هيروشيغي هي التي اجتذبت العدد الأكبر من المتفرجين خلال المعرض الثلاثي المذكور.
عبور الجسور
غير أن ما أثار اهتمام هؤلاء المتفرجين أكثر كان مفهوم الرحلة نفسها جيئة وذهاباً وهما في الواقع رحلتان كما يشير موضوع المعرض نفسه: الرحلة الساحلية المسماة توكايدو وهي الأسهل بوصفها الأكثر أماناً. وهي تمتد بين طوكيو (إيدو) وكيوتو بمحاذاة ساحل البحر على طول نحو 500 كلم وتتألف من 53 مرحلة وتكاد معظم مناظرها المعروفة والمستساغة تكون من رسم هيروشيغي نفسه؛ أما الرحلة الأخرى وهي الداخلية التي تعبر مرتفعات جبلية وتدعى كيزوكايدو (542 كيلومتراً، و69 محطة أو مرحلة) فلقد تعاقب على رسمها عدد من الرسامين الآخرين ومنهم طبعاً كيزاي إيسن. وهي تعتبر الأسهل رغم أنها أطول من الطريق الساحلية وهي تستمد جزءاً من اسمها من نهر كيزو الذي تحاذيه الطريق في جزء كبير من مسارها. أما السبب الذي يجعل هذه الطريق أسهل، فهو أن المسافرين فيها وهم عادة من التجار والحجاج وجنود الدولة وموظفيها المفتشين الجوالين لا يضطرون خلالها إلى عبور مئات الجسور التي تستخدم في الطريق الساحلية كي تُعبر عند مصبات الأنهر العديدة وغزيرة المياه التي تفيض في مواسم الشتاء في مقابل التضاؤل الملحوظ في عدد الجسور على الطريق الجبلية. ومن هنا يمكننا الحديث عن “رحلة الشتاء” و”رحلة الصيف”!
قبل عصر الميجي
بقي أن نذكر هنا أن الحقبة التي ازدهرت فيها فنون الرسم هذه، حتى وإن كانت قد عرفت بكونها حقبة اضطرابات في حكم اليابان بسبب عجز الشوغون (الإقطاعيين وعسكرهم) عن تأمين حياة الناس في انتظار حلول عصر الميجي، فإن الفنون ازدهرت فيها بل يمكن القول، إن ذلك الازدهار يمكن عزوه إلى ديمقراطية استفادت من هبوط مستوى مغيشة الناس ما جعل المسرح والرسم وحتى نشر الكتب ينتشر باعتبار ذلك أرخص كلفة الآن من أي فنون تخصص للموسرين والأرستقراطيين. وعلى هذا النحو صار متوسطو الدخل بل الشرائح المنهارة من البورجوازية الصغيرة هم الوحيدون القادرون عل إنفاق دراهمهم القليلة على فنون لم تعد تجد زبائنها الحقيقيين الذين باتت لهم انشغالات أخرى. وعلى هذا النحو حين حلّ عصر الميجي تطورت معه الفنون وارتفعت أسعار منتجاتها، فكان إنتاجها قد بات أكثر سهولة وفي متناول الجميع: الأصلي منها للخاصة والمستنسخ لعموم الناس!